تراودني ـ طوال سنوات عمري الذي أذكره ـ رغبة في أن أتمكن من التعبير عن نفسي في صدق كامل, وأن أقول ما أشعر به دون حذر مبالغ فيه يؤدي بدوره إلي درجة من الزيف يحتاج بالضرورة إلي قدر من المساحيق الثقافية والرتوش الفكرية, ولكن ظروفا متداخلة ـ اعترف أنني قد صنعت جزءا منها ـ قد زرعت في داخلي أو هاما وهواجس جعلت القلق والتحسب يتحالفان دائما علي ذلك القدر من الحرية الذي أتمتع به غالبا فتنكمش تلقائيا مساحته, ثم تتحكم في الهامش الباقي منه عوامل ذاتية تتمثل في مجموعة معقدة من المخاوف والحسابات وربما التطلعات أيضا!!
وذلك يرجع في مجمله إلي طبيعة التربية السياسية التي خضع لها كثير من أبناء جيلي والتي جعلتهم في صراع دائم بين مايدركون ومايقولون, وخلقت لديهم نوعا من الأزدواجية هي أقرب إلي الشيزوفرينيا الفكرية بكل أثقالها وهمومها وتداعياتها.
أقول ذلك بمناسبة محاضرة مشتركة تحدثت فيها بالقاعة الشرقية للجامعة الأمريكية منذ أيام قليلة تحت عنوان الرئيس مبارك وتحديات القرن الحادي والعشرين, وواقع الأمر أنه منذ أن وجهت لي الجامعة دعوتها ـ في سياق تدريسي السابق بها لأكثر من خمسة عشر عاما وامتدادا لعلاقتي الوثيقة بأساتذتها وطلابها ـ وأنا أفكر في الأمر وأقلب في جوانبه المتعددة مع شيء من الترقب الحذر, والنابع من أهمية الموضوع وحساسيته في جانب, وشخصية الشريك الآخر في المحاضرة وهو أستاذ الاجتماع المعروف بالجامعة الأمريكية الدكتور سعد الدين ابراهيم في جانب آخر.
أما أهمية الموضوع وحساسيته فتصدر عن سببين أولهما عام وهو أن الحديث عن المستقبل لاتحكمة أحيانا ضوابط كافية فضلا عن أنه نوع من ارتياد المجهول برغم تسليمنا بإمكانية القياس علي السوابق والربط بين المقدمات والنتائج, وثانيهما شخصي وهو أنني تشرفت بالعمل لسنوات
بالقرب من الرئيس الذي تدور المحاضرة حول سياساته وهو أمر يلزمني بقدر إضافي من مسئولية الكلمة ووضوح الفكرة ودقة العبارة, أما عن الصديق المشارك في المحاضرة فتلك مسألة تحتاج إلي نظرة موضوعية, لأنه يمثل شخصية خلافية يتأرجح الموقف منها بين الاحترام لفكره وعلمه وبين القلق المستمر من توجهاته التي لاتخلو في نظر البعض من نزعة خاصة نحو ارتياد طرق وعرة, وجنوح نحو التفرد بموضوعات يعتبر الخوض فيها أمرا غير مألوف في إطار واقعنا الاجتماعي والثقافي الراهن, ولقد قررت دخول تجربة الحديث المشترك مع الدكتور سعد الدين ابراهيم متغلبا علي الهواجس والمحاذير, منتصرا في الوقت ذاته علي رفيق لازمني منذ الطفولة وحاول دائما قمع أفكاري وحبس مشاعري, إنه ذلك الرفيق الذي حان الوقت لرحيله ـ بمنطق العمر وروح العصر ـ وأعني به ذلك القلق القابع في الأعماق والذي يصنع الخوف الدائم من المجهول, فكان أن طلبت فقط من مسئولة الندوة ـ قبلها بساعات قليلة ـ أن يكون شريكي هو المتحدث أولا, وهو طلب أعترف انه لايبرأ من ذاتية ولا يخلو من حيطة لأنني أريد أن استكشف مسبقا أطروحته حول موضوع المحاضرة, بحيث يكون متاحا لي حق التعليق علي ما لا أريد تحمل مسئوليته من أقواله إذا رأيت ذلك, وأبادر هنا فأسجل بكل شرف وأمانة أنني ممن لايتحمسون للحملة المستمرة علي د. سعد الدين ابراهيم مهما تكن مساحة الخلاف في الرأي معه, كما أنني ضد عملية الخلط الدائم بين حماسنا المحدود أحيانا تجاه مبادرات التحريض الفكري وبين الاتهام المتسرع باللاوطنية والإبدعاء بأن من نختلف معه لابد وانه يعمل لحسا جهات أجنبية..
وقد شهد المحاضرة مجموعة من رموز السياسة والدبلوماسية وعدد كبير من السفراء الأجانب وحشد ضخم من الأساتذة والطلاب يتقدمهم رئيس الجامعة الأمريكية, وكنت سعيدا منذ البداية أن المحاضرة باللغة الإنجليزية وهو أمر لابد وأن يعفيني هذه المرة من تأويلات بعض مندوبي الصحف والمجلات العربية واستقطاعهم الدائم وبشكل تحكمي لبعض العبارات وانتزاعها من سياق الحديث لخدمة خبر مغلوط أو رأي مثير.
وقد تحدث شريكي في المحاضرة أولا ـ كما طلبت ـ مركزا علي قضايا التطور السياسي والاجتماعي في مصر مشيرا إلي محاضرة له عندما تولي الرئيس ميارك السلطة عام1981 مقارنا بين توقعاته حينذاك وما حدث بالفعل, وكان حديثه ايجابيا في مجمله, ويعكس رؤيته الفكرية لما جري في العقدين الأخيرين, كما تطرق إلي قضايا الأقباط والمرأة وحقوق الإنسان وهي موضوعات ذات جاذبية خاصة لديه في كثير من المناسبات التي يتحدث فيها أو يكتب عنها من منطلق تصوره للمجتمع المدني المصري كما يريده.
وعندما جاء دوري في الحديث بدأت بالإشارة إلي حقيقة لابد من التسليم بها وهي أن المستقبل ليس زمنا جديدا نستقطعه من سياق حركة التاريخ, كما انه ليس وليدا لقيطا مجهول الأبوين, ولكنه في الحقيقة ابن شرعي للحاضر وحفيد طبيعي للماضي, فتعرضت في عجالة لمصر الحديثة في ظل حكم أسرة محمد علي بكل ما لها وما عليها, ثم انتقلت إلي زعامة عبدالناصر التاريخية مؤكدا أن النهايات غير السعيدة يجبان تكون هي المعيار الوحيد للحكم علي القادة والزعماء, وأوضحت أن قيمة عبدالناصر الحقيقية تصدر من الروح القومية التي بعثها, أكثر من ارتباطها بالإنجازات التي حققها, وإعتبرته بطلا قوميا بكل المعايير رغم كل ما نسلم به من سلبيات عهده وسنوات حكمه.
ثم تحدثت عن الرئيس السادات مؤكدا أنه رجل دولة رفيع القدر تأتي مكانته تالية في هذا الشأن لمحمد علي الكبير من حيث القدرة علي توظيف المتغيرات الدولية والاقليمية في خدمة رؤيته السياسية بعيدة المدي واعتبرته سياسيا من طراز خاص وصاحب خبرة واسعة في السياسة والحكم, ثم انتقلت إلي المشهد الدامي لاغتياله وصورة مصر مساء6 أكتوبر1981 والتي كانت هي التركة الحقيقية التي ورثها الرئيس الجديد مبارك, ثم أشرت إلي التوازن المتربط بشخصيته والإعتدال المميز لمنهجه, وكيف أنه استطاع من خلال علاقة فريدة مع عنصر الوقت أن يستكمل تحرير التراب الوطني, ويعيد الاستقرار إلي وطن جريح كانت وحدته الوطنية مهددة,
وأوضاعه الإقتصادية مختلة وبناؤه الاجتماعي مهتزا, وأشرت إلي نجاح ادارة مبارك لبرنامج الاصلاح الاقتصادي وأهمية أن يقترن ذلك في المستقبل بإستكمال عملية التحول الاجتماعي نحو استكمال ملامح المجتمع المدني التي أري أن لها أهمية خاصة تتصل بركام تاريخي موروث من القيم الاجتماعية المسيطرة والتقاليد السائدة التي شكلت أسلوب الحياة المصرية وطبيعة الانتاج الوطني وأنماط الاستهلاك اليومي, وخلقت في الوقت ذاته قدرا كبيرا من التسيب واللامبالاة علي نحو كانت له انعكاساته علي الحياتين السياسية والاقتصادية ضلا عن شيوع ثقافة وافدة تجافي أحيانا طبيعة التطور وروح العصر.
ثم تطرقت إلي مسألة تطور النظام السياسي والتوصيف الدستوري وفقا لتطورات حدثت وتغيرات تحققت, واتبعت ذلك بمناقشة قضية العلاقة بين الدين والدولة في مصر الحديثة, وتعرضت للنسيج المصري المشترك, وكيف أن المواطنة يجب أن تكون هي المعيار الوحيد لتحديد هوية المصريين دون سواها, كما استعرضت عددا من الحلول غير التقليدية للمستقبل المصري في ظل سنوات حكم مبارك القادمة, وعلقت علي نقطة أثارها الدكتور سعد الدين ابراهيم عن تراجع نسبة التمثيل النيابي للمرأة في عصر مبارك عنها في عصر السادات, وأوضحت أن السبب في ذلك إنما يرجع إلي الطعن الذي حدث في دستورية القانون الذي كان السادات قد اتخذه بتحديد نسبة معينة للمرأة في البرلمان المصري, وأوضحت أن التراجع لا يرجع إلي سبب حقيقي سواء كان سياسيا أو ثقافيا أو إجتماعيا, ولكنه يعود بالدرجة الأولي إلي ان ارتفاع نسبة التمثيل البرلماني للمرأة في نهاية عصر السادات كانت أسبابه تحكمية بقرار فوقي ولم تكن تعبيرا عن تطور طبيعي أو نضوج اجتماعي أو وعي ثقافي.
ثم انتقلت إلي خطا بالأمل فيما أريد أن أقوله مركزا علي عناصر ثلاثة: أولها يتصل بالإصلاح الجوهري للتعليم وتطويره, وينصرف الثاني إلي مسألة توطين التكنولوجيا والخروج من دائرة الاعتماد المطلق علي استيرادها, ثم تحدثت في النقطة الثالثة عن حيوية الدعوة الي تصدير الثقافة وأهمية ذلك بالنسبة لمستقبل الدور المصري عربيا وانعكاس الريادة الثقافية علي حيوية ذلك الدور والتصدي للمحاولات المشبوهة التي تتحدث عن تهميشه مستقبلا أو تآكله تدريجيا وأكدت أن الثقافة لاتزال هي أغلي سلعة مصرية يمكن تصديرها إلي الخارج.
واختتمت حديثي بالإشارة الي مستقبل السياسة الخارجية المصرية, وعنصر التوازن فيها علي المستويين العربي والإقليمي, ومنطق الاعتدال الذي لم يقترن بالتفريط في حق أو التهاون في واجب, واعتبرت أن تعددية الهوية المصرية تعطي القرار السياسي مرونة في اتجاهات متعددة أولها عربي وثانيها افريقي وثالثها اسلامي ورابعها بحر متوسطي وخامسها شرق أوسطي, ثم بدأ ـ بعد ذلك العرض الموجز ـ حوار مفتوح بين المنصة والحضور حيث انهالت علينا الأسئلة التي ركز بعضها علي المسائل المتصلة بتطور المجتمع المدني المصري والشأن القبطي والتحول الاجتماعي والاصلاح الاقتصادي ووجدت نفسي في النهاية أشعر بدرجة من الارتياح لأنني تمكنت من التعبير عن نفسي بغير خسائر, واحتفظت بحبل المودة مع شريكي, وجعلت المسافة ضيقة بين ما أفكر فيه وما اتحدث عنه, وتلك أمنية دائمة لي يزداد إلحاحها علي خاطري يوما بعد يوم, فما من مرة دعيت فيها للحديث إلا وكان احتمال سوء التأويل قائما, وكانت العبارات المبتسرة هي مصدر الحكم علي ماقيل, وتلك في ظني خطيئة مكررة يجب أن نضع نهاية لها لأن استقطاع الجزء من الكل إساءة متعمدة, كما أن اجتزاء الكلمات من سياقها مغالطة مقصوده, وواقع الأمر أن حرية النقاش في المنتديات الفكرية, وحيوية الحوار في الأمسيات الثقافية هي أمور تحسب للنظام السياسي وتعبر عن مساحة مكتسبة للفكر الليبرالي الذي يقترن بفتح أبواب التعددية, ونوافذ الرأي الآخر, في بلد كانت صناعته حضارة, وحرفته معرفة, وبضاعته ثقافة.
جريدة الأهرام
http://www.ahram.org.eg/Archive/2000/3/7/WRIT1.HTM