يتردد تساؤل بين المعنيين بأساليب التطور وحركة التاريخ يدور في مجمله حول العبقرية الفردية ومدي تأثير سخائهافي تقدم المسيرة البشرية علي الرغم من تراجع بعض المقومات نتيجة طغيان منطق التخصص وغياب الرؤية الشاملة واختفاء الشخصيات الموسوعية من ساحة التطور الانساني الكبير, بينما يقف علي الجانب الآخر من يرون غير ذلك ويعتقدون أن العبقرية الفردية سوف تتواري مع روح العصر الجديد حيث يصبح تنظيم المجتمع الانساني بكل ماطرأ عليه من تقنية حديثة وتطور هائل مبررا للانتقاص من قيمة العبقرية الفردية والاقلال من قدر التفوق العقلي والذكاء الانساني, ويبرر دعاة هذا الطرح الأخير مقولتهم بالاستناد الي سيطرة مناهج البحث المتطورة واستقرار طرائق التفكير العلمي بحيث أصبح العمل النمطي الدقيق والمحاكاة الوظيفية المنتظمة بمثابة عوامل جديدة لا تحتاج عملية التطور معها الي نبوغ واضح أو تفوق كاسح ويري دعاة هذا التوجه أن التقدم الياباني في القرن العشرين يعتبر دعما مباشرا لهذه النظرية علي اعتبار أن التقدم التكنولوجي لم يكن نتيجة تفجر عبقرية طاغية أو بزوغ تفوق ياباني مفاجيء, ولكن كان التنظيم والمحاكاة هما العنصرين اللذين قامت عليهما الأسطورة اليابانية الحديثة والتي صنعت من أمة فقيرة الموارد دولة ذات تأثير واسع في اقتصاديات العالم المعاصر.
ولكننا نعترف برغم كل ذلك أننا لو تأملنا موقع العبقرية في التاريخ كله فسوف نجد أنها قد لعبت دورا حاكما في الفلسفات الكبري, وعاملا مؤثرا وراء الاكتشافات المعاصرة, وإن كنا قد بدأنا نشعر في السنوات الأخيرة وبعد ثورة الكمبيوتر تحديدا أن العبقرية الفردية أصبحت تواجه تحديا مختلفا يتأكد معه يوما بعد يوم أن العقل الإنساني متقارب في قدراته التي لا حدود لها, وأن التعليم والتدريب كفيلان بصنع مقومات شخصية قد تكون قادرة علي اكتساح العبقرية غير المنظمة, وسحق التفوق العلمي المضطرب.
ولعل الذي دفعني اليوم إلي مناقشة هذا الموضوح تلك الرسالة التي وصلتني من عميد كلية الهندسة بجامعة الأزهر الأستاذ الدكتور حسين عباس والتي استوحيت منها عنوان المقال وموضوعه حيث جاء في نصها استمتعت مع الكثيرين بالكلمات القيمة التي القاها الدكتور مصطفي الفقي خلال ندوة الأهرام موقعنا علي القرن الحادي والعشرين حيث طرح مما طرح مقولة تري أن عالم القرن العشرين استطاع بالنظام أن ينتصر علي التفوق العقلي والذكاء, والنظام هنا بالطبع بمعني
system
وليس
order
والفرق بينهما واضح ثم يستطرد عميد الهندسة في رسالته قائلا ولشدة ايماني بأننا لو أخذنا بهذا المنهج لاستطعنا بقليل من الجهد السيطرة علي الكثير من المشكلات التي تواجهنا ونكاد نقف أمامها عاجزين, الا انني بحكم موقعي الوظيفي قد تعرضت لوابل من الأسئلة والاستفسارات جاء معظمها من ابنائي طلبة الهندسة جامعة الأزهر والذين تصوروا خطأ أنه لا موقع في عالم اليوم والغد للعبقرية والذكاء بل علينا السير في عالم آلي شديد التنظيم, سريع الخطوات, لايعبأ بمبتكر أو مبدع, بل يكاد ينظر اليهم نظرة شك وريبة, بل وربما استغناء عن خدماتهم مضحيا بهم مفضلا عليهم السير في طريق سريع يحكمه نظام دقيق متماسك قابل للتطبيق من الكافة بسهولة ويسر ودون تفكير, وهذا يقينا مالم يقصده الدكتور الفقي, فالنظام بلاشك ضرورة من ضرورات أي مجتمع متحضر حيث لايمكن الاستغناء عنه, كما أن المجتمعات في كل العصور كرمت العباقرة والاذكياء لكونهم الطليعة التي تقود وتدفع البشرية للرخاء والتقدم والارتقاء, ولم تشهد أي حقبة تاريخية تهميشا لهؤلاء الا في عصور الانحطاط والتخلف.
فما من شك أن أي نظام ناجح هو نتاج جهد لمبدع أو مفكر أو عبقري بل وفي الغالب حصيلة عملهم معا حيث يساهم كل بقدر مانحو استقراره بعد استخلاصه دون غيره من العديد من الأنظمة المتاحة, فللوصول من النقطة( أ) الي النقطة( ب) مثلا عدد لانهائي من المسارات الا أن أفضلها علي الاطلاق هو الخط المستقيم الواصل بينهما, فيا له من حل عبقري رغم بساطته المتناهية علمنا أياه عبقري لانتذكر اسمه في زحمة التفاصيل وخضم المشكلات التي شغلنا أنفسنا بها أو فرضت علينا فرضا, فياليت المفكر الدكتور مصطفي الفقي يخصص مقاله الأسبوعي لتوضيح هذا المفهوم العصري الذي لاخلاف عليه رأفة بشبابنا الذي كاد أن يتساءل عن جدوي تكريم العالم المصري الفذ الدكتور احمد زويل في عصر يسيطر عليه النظام والآلة والإنترنت هذا هو نص رسالة عميد الأزهر بعد أن رفعت منها بعض عبارات الإطراء الذي اشكره عليه, وواضح منها أن هناك قضية تستحق التمحيص والدراسة, فالمرء قد يتساءل احيانا هل لم يعد هناك ضرورة للعبقريات في المستقبل ؟, وأن اسماء مثل ابن سينا والفارابي والرازي وأديسون ونيوتن
واينتشين اصبحت جزءا من تاريخ مضي كانوا هم فيه ومضات مضيئة وطفرات مفاجئة احدثت نقله نوعية في مستوي الحياة في أزمانهم أم أن الأمر يتجاوز ذلك الي التأكيد علي دور التفوق الفردي في الاعتلاء بوضع الجماعة والارتقاء بالأمم والشعوب؟
ويمتد السؤال لأكثر من ذلك لكي يكون طرحا يتصل بالمستقبل يدور أساسا حول مكان العبقرية من النظم السياسية والاجتماعية والاقتصادية المختلفة, ذلك أننا قد شهدنا في العقود الأخيرة أن التقدم العلمي لم يعد منسوبا لأفراد بقدر ارتباطه بمؤسسات معينة, كما لم تعد الاكتشافات الباهرة مرتبطة بشخصيات محددة قدر ارتباطها بهيئات صناعية أو شركات كبري, وكأنما أصبح قدر البشرية أخيرا أن تتعامل مع ما يمكن تسميته بالعبقرية الجماعية أو الفكر المشترك. وقد يقول قائل: ماذا عن اولئك الذين يحققون انتصارات علمية منفردة وينالون عنها الجوائز العالمية الكبري والتي يعتبرزويل المصري نموذجا لها ؟ والجواب هنا مباشر وواضح وهو أن زويل كان يعمل ومعه فريق كامل- كما كرر هو في أكثر من مناسبة- يقوده في محاولة ذكية لإجراء التجارب المطلوبة حتي تحقق اكتشافه الكبير, والأمر يدعونا لذلك وعند محاولة الرد علي تساؤل ابنائنا الطلاب الي الأخذ بالاعتبارات الآتية:
1-إن العبقرية باقية ما بقيت مسيرة البشرية, ولكنها سوف تصبح شيئا مختلفا عن ماضيها فهي الآن جزء من نظام جديد للبحث العلمي نشأ عن التزاوج بين التعليم والصناعة وأصبح يتلقي تمويلا جماعيا ضخما يسمح لفرق عمل بأن تبحث في موضوع واحد ولم تعد مهمة العبقري أكثر من وضع التوجيهات الرئيسية والخطوط العريضة لخطوات تجريبية قد تنتهي بميلاد اختراع كبير أو اكتشاف ضخم.
2-إن العقل البشري كان ولايزال وسوف يبقي هو قائد مسيرة التطور ومحرك الإنسانية نحو إنجازاتها الباهرة, والعبقرية نوع من النبوغ الذي يجعل أعمال صاحبه نقطة تحول لدي المجموع كله, وحين نسب العرب النبوغ الي وادي عبقر فإنهم كانوا قد أدركوا قيمة التفوق واكتشفوا ندرة أصحابه.
3-إن النظم الحديثة بتشابك اجزائها وتعقيد مكوناتها ودخول البشرية عصر الكمبيوتر والإنترنت, إن كل هذه التحولات لم تقهر العبقرية الفردية ولم تدفعها الي الاختفاء أو الانزواء بل إن المتوقع هو أن يعكس كل نظام قدراته الحقيقية علي عملية استكشاف النابهين والتقاط المواهب وتوظيف القدرات الفردية لخدمة النظم السياسية والمذاهب الفكرية والمجتمعات الوطنية بالدرجة الأولي.
4-إن عميد الهندسة يتحدث في رسالته عن الخط المستقيم باعتباره أقصر الطرق بين النقطتين( أ) و(ب) ويشير في ذلك الي عبقري لانذكر اسمه كان هو أول من اكتشف هذه الحقيقة, وواقع الأمر أننا يجب أن نغوص في أعماق التاريخ بحثا عن جنود مجهولين وعباقرة تاهت اسماؤهم في زحام الأزمنة بينما هم الصناع الحقيقيون للتطور, والبناة الأصليون للمدنية المعاصرة, لذلك فإنني أزعم انه بجانب العبقريات المعروفة فإن هناك مئات من العبقريات المجهولة.
5-إن البيئة العلمية والاطار الحضاري ودرجة التحديث كلها أمور تنعكس علي سلامة العبقرية وقدراتها علي التغيير, بل إنناندعي هنا أن زويل هو ابن المدرسة التكنولوجية الامريكية التي لايقل فضلها في تكوينه واتاحة الفرص امامه عن المدرسة المصرية التي نشأ فيها وتخرج فيها, ولست اشك أن لدينا في مصر عشرات من طراز زويل الا أن الفرصة لم تواتهم, كما أن نقص الامكانات المتاحة والحجم المحدود للإنفاق علي البحث العلمي حالت كلها دون أن يبلغوا ما بلغه العامل المصري الكبير.
...إن العبقرية لن تختفي كما أن النبوغ لن يتواري ولكن حجم الفرد فيهما سوف يتضاءل, فالمعجزة اليابانية جماعية التكوين آسيوية الفلسفة, قامت- كما اسلفنا- علي التنظيم الدقيق والمحاكاة الواعية, لذلك فإننا نعتقد أن الإنسانية قد تواجه عصرا جديدا سوف تختفي منه الزعامات الكبيرة والعبقريات الضخمة لكي تكون حركة التاريخ مرتبطة بالانسان العادي قبل غيره, ولعل دراسات تنمية الذكاء والتدريب العقلي سوف تسمح مستقبلا لعقليات متوسطة بأن تحقق انجازات باهرة لاتقل تأثيرا عن تلك التي تحققت لعباقرة سبقوهم في عصور مضت, فالقرن الحادي والعشرون يفتح ابوابه لعبقريات جديدة ولكن يبدو ظهورها مختلفا في سياقه عن ظهور من سبقته.
ولعل هذه النقطة بالذات تبدو ذات مغزي بالنسبة لقضية البحث العلمي في بلادنا فأنا اتصور أن النهضة المصرية الحديثة يمكن أن تقوم بفكر, وسواعد أجيال جديدة تتعامل بجدية مع الأجهزة الحديثة والتكنولوجيا المتقدمة خصوصا حين ندرك أن عمل الفريق يمكن ان يحقق انجازات باهرة ونتائج ضخمة, وهناك نقطة أخري جديرة بالتأمل, وهي أن الأعمال الكبري في تاريخ مصر عبر مراحله المختلفة انما تمت بالعبقرية الجماعية للشعب المصري, ولم تكن نتاج عمل فردي أو جهد عشوائي بدءا من بناء الأهرام ومرورا بحفر قناة السويس ثم وصولا إلي تشييد السد العالي, فنحن نستطيع ان نقول هنا إننا سوف نواجه نمطا جديدا من العبقرية الجماعية القائمة علي روح الفريق مع السنوات القادمة في مستقبل البشرية, وسوف يكون الحديث دائما عن النبوغ الجماعي المنظم, وليس مجرد النبوغ الفردي العشوائي.
إن القضية التي نتعرض لها ليست مجرد سفسطة نظرية أو ترف فكري, ولكنها تدخل في صميم عملية التطور السريع الذي يشهده عالم اليوم, كما أنها ايضا محاولة للبحث في العلاقة بين الفرد والجماعة في ظل قوانين الحركة الجديدة التي أفرزتها الثورة العلمية والتطور التكنولوجي في نهاية القرن العشرين, ويبقي السؤال الكبير هل التقدم رهن بتفوق أفراد يحوزون العلم ويدعمون التقنية ويقودون التطور؟ أم أنه رهن بارتقاء المجموع وإحداث حراك فكري عام في المجتمع الراكد تتولد عنه إرادة حقيقية تسعي لتوطين التكنولوجيا, ودون استيرادها وتصدير الثقافة, وليس استقبالها؟ إنني أظن عن يقين أن مفتاح القضية برمتها لا يزال قابعا في الصندوق السحري للعملية التعليمية في بلادنا حيث التأثير عند المنبع هو القول الفصل في تحديد مسار النبوغ واكتشاف الموهبة ونشر المعرفة وفقا لأسس عصرية تهتم بمناهج البحث وطرائق التفكير وأدوات تدريب الذكاء واكتساب القدرات....
إن موقع العبقرية من حركة التاريخ سوف يظل مؤثرا, ولكن بغير ضجيج لأن زحام الاكتشافات, وتوالي الاختراعات يجعل معدل التأثير المباشر علي المجتمع الإنساني محدودا, إذ يتحول المفكر والمخترع في كثير من الأحيان إلي سلعة ثمينة تروج لها دوائر العلاقات العامة ومراكز صنع الدعاية في كثير من مجتمعات الوفرة, وفي مقدمتها المجتمع الأمريكي الذي برع في ذلك بشكل غير مسبوق, وكثيرا ما نشهد صخبا شديدا مصطنعا حول مسألة يهتم بها العالم في ظل مبالغات وتهويلات بغير حدود, ثم تكون النتيجة هي اكتشاف فكرة عبقرية لجمع اموال البشر ــ حتي ولو كانوا فقراء ــ لمصلحة ترسانة تكنولوجية معينة علي حساب الجميع, ولعل مثال مشكلة الصفرين في مستهل عام ألفين هي نموذج حقيقي لنوع العبقرية الجديدة التي تستند إلي تكتلات اقتصادية كبيرة, وتنطلق من شركات عابرة للقارات تمارس أدوارا خطيرة مدخلها تكنولوجي وظاهرها تجاري وباطنها ثقافي وعائدها سياسي!
إن عميد الهندسة قد فتح برسالته ــ تعليقا علي حديث لي ــ ملفا يصعب إغلاقه دون الإقرار بأن العبقرية الفردية لن تنتهي, ولكنها قد تتوه في زحام الأعداد الكبيرة, وصخب الحياة الحديثة, ولكن يبقي علينا في النهاية أن نؤسس تفكيرنا علي احترام العقل الذي يستطيع أن يرتفع الي مستوي العبقرية إذا سنحت الفرصة, وتوافرت الظروف... يومها نكون قد حققنا في وقت واحد تطوير التعليم وتوطين التكنولوجيا ثم تصدير الثقافة.
جريدة الأهرام
http://www.ahram.org.eg/Archive/2000/2/22/WRIT1.HTM