عندما كاد عرس الوحدة الوطنية المصرية يصل إلي ذروته, وحيث يتحلق المسلمون والأقباط سويا حول موائد الإفطار, ثم تتعانق أعيادهم بعد أن صاموا معا في مشهد رائع تستهل به مصر بداية قرن جديد, جاءت أحداث العنف الطائفي في قرية صغيرة في صعيد مصر لتشوه الصورة الجميلة وتبدو خروجا كاملا عن السياق, ولتفسد علي المصريين فرحتهمو وكأنما قذف بعض الحمقي بمقاعدهم ليطفئوا مصابيح الأنوار في العرس الكبير..
وشعر المصريون جميعا وبغير استثناء أن هناك من يحاول اغتيال فرحتهم والنيل من وحدتهم, وأدركوا أيضا أنه لابد من وضع حد نهائي لذلك السلوك غير المسئول خصوصا أن كل الشواهد تؤكد أن المصريين يعرفون أن وطنهم مستهدف دائما في استقراره, محسود لتماسكه, معروف بدرجة عالية من الانصهار الاجتماعي والتجانس السكاني, ولقد صرفت, شخصيا, سنوات طويلة من دراستي الأكاديمية باحثا في الشأن القبطي متحمسا لمظاهر الوحدة الوطنية المصرية, مؤمنا بقيمتها عبر تاريخنا الطويل, خصوصا في الفترة الليبرالية بين الثورتين في القرن العشرين, وحول هذه القضية اخترت موضوع رسالتي للدكتوراة في فلسفة العلوم السياسية من جامعة لندن منذ قرابة ثلاثين عاما, وقريبا من هذه القضية دارت اهتماماتي لسنوات طويلة, ومازلت أذكر ـ ويذكر معي بعض المعنيين بالأمر ـ أنني كتبت مقالا في الأهرام منذ خمسة عشر عاما بعنوان ظواهر وفدت علي مصر طالبت فيه برفع الملصقات الدينية عن السيارات بعد أن كانت قد انتشرت بشكل ملحوظ وبدت لي وقتها محاولة ساذجة لتقسيم المصريين في الشارع, بينما تلتصق مساكنهم وتتجاور قبورهم وتمتزج دماؤهم, وقد استجاب وزير الداخلية سريعا لمضمون المقال واتخذت إدارة المرور في ذلك الوقت إجراءات حازمة لرفع تلك الملصقات باعتبار أن الدين لله, والإيمان في القلب, والمصريين سواء.
كما أذكر باعتزاز أيضا مساهمتي منذ أكثر من عشرين عاما مع الفقيه المؤرخ طارق البشري والمفكر الراحل وليم سليمان قلادة في إصدار كتاب مشترك تحت عنوان الشعب الواحد والوطن الواحد كتب مقدمته الدكتور بطرس غالي, وتضمن الكتاب فصولا من تاريخ الوحدة الوطنية المصرية وشواهد ثابتة علي رسوخها, وعمق أبعادها..
أقول ذلك الآن وأنا أرقب مظاهر الوعي لدي الشخصية الوطنية المصرية, وهي تتواءم مع روح العصر وتواكب مسيرته وتشارك في الآليات الحديثة لتطوره الكاسح, لذلك كان طبيعيا أن يزداد المصريون ارتباطا, وكان منطقيا أن تختفي الفتنة الطائفية من فوق هذه الأرض الطيبة, خصوصا أن السياسة والحكم يتجهان معا نحو رؤي عصرية تنفض عن كاهل الوطن سلبيات تاريخها الاجتماعي, وتضع علي عاتق المصريين جميعا مسئولية الحفاظ علي شموخ تقاليد الوحدة الوطنية وتماسك عناصر النسيج الوطني.
وإذا أردنا أن نتحدث عن رؤية المستقبل في هذا الإطار فإننا نشير إلي ثلاث قضايا مستقلة, برغم ارتباطها بجوهر الموضوع, وهي:
خصوصية صعيد مصر
يتميز صعيد مصر بعراقة تاريخية وشخصية متميزة ترتبط بالأصول السكانية الأولي في تكوين العنصر البشري الذي استوطن جنوب الوادي المصري, ويتصف الصعيد بقدر كبير من التمسك بالتقاليد والمحافظة علي العادات, كما يتميز بعصبية عائلية تعطيه مذاقا خاصا حتي ارتبطت مراكزه ونجوعه وقراه بأسماء عائلات معينة, احتلت مواقع العمل السياسي والتمثيل النيابي علي امتداد عهود مصر الحديثة, كما أن صعيد مصر هو ايضا مستودع بشري للكفاءات, بل إنني أزعم أن عددا لا بأس به من قيادات مصر تاريخيا قد وفد للعاصمة من جنوب البلاد, كذلك فإن الوادي الضيق قد قذف بعدد كبير من ابناء مصر اللامعين بدءا من مينا موحد القطرين وصولا إلي جمال عبدالناصر قائد الثورة مرورا باسماء مرموقة مثل العقاد وطه حسين والمنفلوطي ومحمد محمود سليمان ومكرم عبيد والشيخ المراغي, كذلك عرف الصعيد المصري عددا من البيوت القبطية العريقة مثل غالي ودوس وويصا وخياط وعبدالنور وغيرها من رموز الحياة السياسية والنشاط الاقتصادي في القرنين الأخيرين, يضاف إلي ذلك كله أن المسيحية قد دخلت مصر من جنوبها كما وصلت رحلة العائلة المقدسة إلي قلب الصعيد مما أدي ألي تركز الاقباط في مصر العليا بدرجة تفوق نسبتهم في الدلتا ومدن الشمال.
وظلت هذه التعددية التاريخية والتميز الرفيع تجسدان مظاهر حياة في الصعيد طوال تاريخه الطويل إلي أن قامت ثورة يوليو1952 وأطاحت بالرءوس العائلية الكبيرة عند تطبيق قانون الاصلاح الزراعي الأول, ثم اجراءات تصفية الاقطاع بعد ذلك, فضلا عن مظاهر التطور الطبيعي للمجتمع المصري الذي اتجه إلي الانصهار السكاني والتجانس البشري بحيث أصبحت الأسرة هي نواة المجتمع ولم يعد للسطوة القبلية أو النزعة العائلية تأثيرهما الذي كان قائما, وإذا نظرنا من زاوية أخري إلي الوضع الاقتصادي في الصعيد فسوف نكتشف أنه علي الرغم من عراقة تاريخه فإن مستوي المعيشة في بضع مناطق يبدو أقل من نظيره في الدلتا, وربما جاء ذلك تأكيدا لسياق ظاهرة متكررة في كثير من دول العالم التي حظي فيها الشمال بميزات اقتصادية تفوق تلك التي حصل عليها الجنوب, فالشريط الأخضر للوادي الضيق محصور بين الجبل والنهر وهو أمرينعكس بالضرورة علي شخصية الصعيد ومزاجه الاجتماعي, ولابد أن نذكر هنا أن الدولة قد بدأت تعطي هذه الظاهرة اهتماما متزايدا في السنوات الأخيرة بالسعي الجاد نحو تنمية الصعيد وتصنيع مدنه منذ المحاولات المبكرة مع السد العالي ومجمع الألومنيوم, إلي مشروعات الاستثمار الجديدة في أنحاء الصعيد.
لذلك كله فإن فهم خصوصية صعيد مصر يبدو أمرا ضروريا للتعرف علي مايجري في ذلك الجزء من بلادنا فاختفاء الرءوس الكبيرة وتراجع سطوة العائلات قد أحدثا فراغا تلقائيا دون أن يكون هناك له بديل, وسارعت عناصر مختلفة لملء ذلك الفراغ الذي ظهر, ولكن هذه العناصر لم تكن علي قدر المسئولية بحكم ضحالة دورها, وحداثة تاريخها أو تطرف توجهاتها وضعف سيطرتها, وظل التحول الذي حدث في النظام الاجتماعي لصعيد مصر سببا مباشرا في تصاعد أعمال العنف, واشتداد روح التطرف, وظهور نعرات التعصب, واختفاء روح التسامح الديني التي سادت تاريخه الطويل, بالإضافة إلي استمرار الأخذ بسلبيات الماضي من عادات بالية يقع الأخذ بالثأر في مقدمتها, فضلا عن أن جهاز الشرطة بحكم تقاليده الوظيفية وصورته الموروثة ـ ورغم جهوده الضخمة في الميدان الأمني ـ لا يصلح وحده بديلا كاملا يمكن له أن يملأ الفراغ القائم في الصعيد, ولعلي لا أجافي الحقيقة إذا زعمت أن ضعف العمل السياسي واختفاء النشاط الحزبي يتحملان معا المسئولية الأولي في كثير مما حدث, ودعونا نتذكر تلك الأيام الخوالي حين كان مكرم عبيد باشا القبطي يكتسح ياسين أحمد باشا نقيب الأشراف في الانتخابات البرلمانية في إحدي دوائر قنا ذات الأغلبية المسلمة, لأن الناس كانوا ينظرون عند اختيار من ينوب عنهم إلي الاعتبارات السياسية ويضعون دور المرشح في الحركة الوطنية فوق كل اعتبار, ولاينظرون إلي أية اعتبارات أخري تتصل بالاختلاف في العقيدة الدينية, أو غيرها من العوامل التي تفرق بين المصريين لأسباب غير مألوفة عبر تاريخنا كله.
الابتزاز الطائفي
تقترن دائما أحداث الفتنة الطائفية بما يمكن تسميته بمحاولة ابتزاز الدولة طائفيا من الجانبين القبطي والمسلم علي حد سواء, في محاولة لالقاء التبعة علي الجهاز الحكومي وتصوير الأمر وكأنه مواجهة بين الدولة والكنيسة في جانب, أو الدولة والهيئات الإسلامية في جانب آخر, وتقديم مادة مثيرة للرأي العام في الخارج يمكن أن تعطي انطباعا مغلوطا مؤداه أن الدولة لا تحترم حقوق الإنسان, وتفرق في المعاملة بين أبنائها بسبب اختلاف دينهم, بما يترتب علي ذلك من آثار في علاقات مصر الدولية خصوصا مع بعض الدول الغربية وفي مقدمتها الولايات المتحدة الأمريكية, بينما واقع الأمر يؤكد أن الدولة ضحية حقيقية لجهل البعض وتعصب البعض الآخر, وقد يقول قائل: إن بطء التطور الاجتماعي وغياب العمل السياسي هما من مظاهر تقصير الدولة رغم جهودها الأمنية المشهودة عند وقوع مثل تلك الأحداث المؤسفة, فالمطلوب هو الاجراء الوقائي الذي يمنع وقوع الحدث وليس الاجراء العلاجي بعد أن يحدث, وقد يكون هذا القول صحيحا ولكن لا يخفي علي أحد أن التطور الاجتماعي عملية طويلة المدي تعتمد علي ركائز اقتصادية وثقافية يلعب فيها النظام التعليمي دورا فاعلا فضلا عن ركام ضخم من القيم والتقاليد التي يحتاج تغييرها إلي المدي الطويل, ولايمكن أن تتغير بين يوم وليلة, كما أن غياب العمل السياسي مسئولية مشتركة بين أطراف متعددة في الدولة, منها من هم في الحكم ومن يمثلون المعارضة ايضا, والرأي في تقديري أن الاحتكام في مسألة العلاقة التاريخية بين المسلمين والاقباط يجب أن يتوجه إلي ضمير الشعب المصري دون سواه لعدة أسباب, أولها أنه لاتوجد في تاريخه رواسب حقيقية للتعصب الديني, كما أن الأغلب الأعم من المصريين يرفض تماما التسليم بدواقع أحداث الفتنة الطائفية ولا تختلف أحاديث المصريين المسلمين عند تقويم ما جري عن أحاديث المصريين الأقباط حوله, كما أن هناك ايجابيات واضحة في التناول الرسمي أخيرا للشأن القبطي من جانب الدولة, نرصد منها انتقال سلطة قرار بناء وترميم دور العبادة القبطية إلي المحليات بما يعني الانتهاء الفعلي لما كان يسمي بالخط الهمايوني كذلك نشير إلي الشوط الذي قطعته مسألة الأوقاف الزراعية القبطية نحو الحل النهائي, ونتذكر بسعادة إذاعة تليفزيون الدولة لاحتفال الكاتدرائية المرقسية عشية عيدي الميلاد والقيامة من خلال أبرز قنواته, وهذه كلها دلالات علي موضوعية توجه الدولة وحياد اداراتها لشئون المصريين بغير تفرقة, وإعمال مبدأ المواطنه وحده ودون النظر لغيره من الاعتبارات, وتبقي هنا ايجابية رئيسية يجب أن نسجلها بارتياح كامل, وهي أن علي رأس الكنيسة المصرية رجل دين رفيع المستوي لايشك أحد في وطنيته وسلامة مقاصده, كما أن علي قمة الأزهر الشريف شيخا جليلا يعبر عن روح التسامح الإسلامي بصورة تستحق الاعجاب.
نحو حلول غير تقليدية
لقد آن الأوان للخروج من النمط الاحتفالي لتأكيد مظاهر الوحدة الوطنية واعتبار الخطب المتبادلة واللقاءات الودية أمورا كافية للإعلان عن سلامة العلاقة بين المسلمين والاقباط, فهذه كلها مظاهر سطحية لاتعكس بالضرورة ما هو تحت الرماد, ولكن الأولي بنا في تصوري هو البحث في الجذور والتنقيب عن الأسباب في نظامنا التعليمي وجهازنا الإعلامي وركائز حياتنا الثقافية, كما أن الوقت قد جاء لإجراء مصالحة عادلة بين فترات تاريخنا القومي وحقب الحضارات التي تعاقبت علي الوادي العجوز ودلتاه الخضراء, وكما يرد الرئيس مبارك الاعتبار لزعامة مصرية ضخمة في تاريخنا الوطني عندما يذكر اسم مصطفي النحاس ضمن القيادات العظيمة للحركة الوطنية, فأنني أطالب بالاهتمام بالحقبة المسيحية عند تدريس تاريخ مصر للأجيال الجديدة لأن ذلك سيكون مبعث فخر واعتزاز للمسلمين والاقباط علي السواء, بقي أن أقول إنه من المهم للغاية يتعرف كل جانب علي هموم الجانب الآخر وطبيعة دور المؤسسة الدينية لديه علي نحو يزيل المخاوف والأوهام والظنون ويفتح الباب لدولة عصرية, تجعل الدين علاقة خالصة بالله سبحانه وتعالي, ويتفهم ابناؤها روح الإسلام الحقيقية ـ دين الغالبية من المصريين ـ تجاه أهل الذمة عموما والاقباط خصوصا, فهم أخوال العرب, أوصي بهم رسول الإسلام وكفلت لهم تعاليمه كل أسباب المساواة في التكاليف والواجبات, والضمانات الكاملة في الحقوق والمزايا, إن المصريين الأقباط يفخرون بالعالم الكوني أحمد زويل, كما يعتز المصريون المسلمون بالجراح العالمي مجدي يعقوب, ألسنا جميعا أبناء وطن واحد, ندرك قيمة التسامح منذ فجر التاريخ, ونعرف معني التوحد منذ طفولة الإنسانية؟!
جريدة الأهرام
http://www.ahram.org.eg/Archive/2000/1/25/WRIT1.HTM