مضيت وراء العالم المصري أحمد زويل مشاركا في عديد من لقاءات تكريمه في الشهر الماضي, وكنت مشغولا ـ مثل الكثيرين ـ بقضية البحث العلمي والتقدم التكنولوجي, وتابعت حوارات مختلفة ـ شاركت في بعضها ـ مع الحائز منفردا علي جائزة نوبل في الكيمياء مع آخر سنوات القرن العشرين, وكأنما أبي القرن المنصرم أن يلملم أوراقه دون أن يبعث برسالة لمصر عبر واحد من أنجب أبنائها لكي يقول أن الوجود علي خريطة القرن الحادي والعشرين مرتبط بالعلوم الجديدة لا بالحشو الدراسي, ومشروط بامتلاك التكنولوجيا الحديثة لا مجرد استيرادها, واذا كان المنطوق القانوني الشائع يقول: ان حيازة المنقول سند الملكية إلا أن ذلك لا ينطبق علي المعرفة باعتبارها تظل منسوبة لمصدرها مهما تعددت مراكز تداولها.. وسوف تظل رحلة زويل من مولده في دمنهور حتي حصوله علي أرفع جائزة معاصرة في واحد من فروع العلم المرتبطة ارتباطا وثيقا بالتكنولوجيا والمؤثرة تأثيرا كبيرا في مستقبل البشرية والبحث في لغز الحياة واكتشاف سر ذلك الانفجار الرائع الذي أدي من خلال ملايين التفاعلات والالتحامات الي لحظة الميلاد الغامضة للكون العظيم, سوف تبقي تلك الرحلة الطويلة مصدر الالهام ومبعث ا
لتأمل.
وقد كان أشد ما استحوذ علي اهتمامي في أحاديث زويل اشارته المتكررة الي أهمية وجود مراكز مضيئة
CenteresofExcellence
والتي تكون بمثابة معاهد بحثية متخصصة ملحقة ببعض الجامعات أو المؤسسات الصناعية الكبري وتنصرف مهمتها الي البحث العلمي الجاد المدعوم بالكفاءات الراقية في ميادين العلوم التطبيقية, وتخضع تلك المراكز لضوابط في الاختيار وفقا لخطط واضحة وبرامج زمنية محددة, وقد ذكرني ذلك الطرح العصري بما درسته في علم الاقتصاد عند مطلع الستينيات من ضرورة وجود أقطاب للنمو في هياكل الاقتصاد القومي تكون مهمتها أن تتحول الي مراكز دفع الي الأمام بالتركيز علي قطاعات تملك الدولة فيها ميزة نسبية تنفرد بها, وكان الجدل يثور في ذلك الوقت بين الاقتصاديين الكبار من خلال مدرستين رئيسيتين تتحمس احداهما لأهمية أقطاب النمو التي تقود الاقتصاد الوطني, بينما تتحمس الأخري للتنمية الشاملة علي جبهة عريضة تشمل كل القطاعات بغير استثناء, ودخلت بين المدرستين وقتها قضية العدالة الاجتماعية عندما حاول دعاة كل مدرسة اقحامها في الخلاف لعله يجد فيها مبررا لدعم اطروحته, وبعيدا عن متاهات المقارنة بين المراكز المضيئة في البحث العلمي وأقطاب النمو في الاقتصاد الوطني فإننا نجدها مناسبة ملائمة للمشاركة في اعداد أوراق اعتماد مصر الي بلاد الألفية الثالثة, وهنا يحسن أن نضع حثيات قضية البحث العلمي في النقاط التالية:
أولا:
ان الحديث التقليدي عن مسألة الامكانات المادية اللازمة للبحث العلمي لم يعد يشكل عاملا حاكما في القضية, اذ أن دولا أكثر فقرا قد قطعت اشواطا واسعة في ذلك الميدان وفقا لفكر مدروس وابإرادة وطنية واعية, ولعل النموذج الهندي هو خير مثال لذلك منذ أن أنشأ البانديت نهرو المجلس الأعلي للتخطيط القومي الذي وضع البحث العلمي والتقدم التكنولوجي في مقدمة أولوياته حيث مضت التجربة الهندية بثبات وتواصل ولم تتعرض للانتكاس أو النكوص كما حدث مع غيرها, وليس صحيحا أن البحث العلمي مصدر لابتلاع الميزانيات ولكنه في حقيقة الأمر تجمع للكفاءات, ومصر ـ مثل الهند ـ مستودع لعنصر بشري متميز, يمكن توظيف النخبة العلمية فيه لتحقيق أهداف الأمة في وجود فاعل علي خريطة العصر.
ثانيا:ـ
ان المراكز المضيئة في البحث العلمي والتكنولوجيا الحديثة وحتي وجود جامعة متميزة في ذلك هي بؤر ذات خصوصية تختلف عن الجامعات بصورتها المعروفة لتصبح تجمعا مغلقا للموهوبين وأصحاب القدرات المتميزة في مجالات البحث العلمي المختلفة, ان هذه المراكز المضيئة تثير قضية الصدام بين فلسفتي الكم والكيف في سياستنا التعليمية والعلمية, فالكم قد يفتح الباب أمام الجميع في ظل فرص متكافئة بلا تفرقة, ولكن الكيف اختيار حتمي عندما يكون الحديث عن البحث العلمي الجاد, ان الفارق بين التعليم والبحث العلمي يبدو كالفارق بين ما يسمي في لغة الشريعة الاسلامية فرض عموم وما يسمي فرض كفاية لأن للأشواط العليا من البحث العلمي كوادر خاصة تنوب عن غيرها في السعي نحو طفرات تكنولوجية تتمكن من توظيف العلم لخدمة الصناعة المتقدمة.
ثالثا:ـ
ان العدالة الاجتماعية وتكافؤ الفرص مسميات رددناها كثيرا كلما تحدثنا عن قضية التعليم في مصر, ولعل فلسفة المجانية ونظرية الاعداد الكبيرة قد اعتمدتا منذ البداية علي شيء من ذلك, وواقع الأمر أن القضية أوسع وأعمق من هذا بكثير لأنها تتعلق في النهاية بمستقبل الأمة وازدهار شعبها, ولا يجب أن تضيع العبقرية في زحام التعليم العام أو يتوه الموهوبون في وسط الأعداد المكدسة في فصول المدرسة المصرية حيث أصبح عسيرا علي المعلم المعاصر ان يلتقط ذوي القدرات الخاصة في ظل هذا الوضع القائم, كذلك فإن تطوير برامج التعليم يجب أن يأخذ مفهومه نحو العلوم الجديدة وأساليب التدريس الصحيحة ومناهج البحث الحديثة ولا يتوقف عند أمور شكلية مثل اعادة السنة السادسة الابتدائية أو الابقاء علي إلغائها!
رابعا:
ان توطين التكنولوجيا المتطورة أصبح أمرا لابديل له اذا كنا نريد أن نمضي مع ايقاع العصر الذي بلغ من السرعة أن بعض الاختراعات الحديثة فيه لم تجد لها مجالا عند التطبيق بسبب ملاحقة كل اكتشاف علمي لما سبقه بمسافة زمنية قصيرة لا تسمح للأقدم بأن يجد مكانه عمليا بحيث يبقي مرحلة نظرية في سلسلة متصلة من الأبحاث المكثفة, فالتكنولوجيا هي تزاوج بين العلم والصناعة مثلما كانت الارستقراطية هي تزاوج بين الثروة والثقافة, وليكن معلوما ان التقدم التكنولوجي لايملك طريقا وحيدا بل ان المسالك اليه متعددة فليس النمط الغربي هو الأوحد اذ أن تجارب الأمم الآسيوية المتقدمة تثبت أن التكنولوجيا العملاقة يمكن أن تجد مكانها وفقا لأساليب مختلفة تعتمد علي نظرية الميزة النسبية لكل دولة وحجم مواردها الطبيعية والبشرية, انني مازلت أذكر أن الهنود قد بنوا أكثر من عشرين طريقا علويا في عاصمة بلادهم عام1980 استعدادا للدورة الرياضية الآسيوية وتم ذلك في عدة شهور فقط وفي ظل توظيف أكبر عدد مطلوب من العنصر البشري المتوفر لديهم.
وتقودنا هذه الاشارة الي طرق موضوع له أهميته في مسألة التكنولوجيا المعاصرة وأعني به أن الأمر لا يتوقف عند مجموعة العلماء والباحثين ولكنه يتجاوز ذلك الي العنصر البشري المدرب علي التطبيقات الجديدة للعلم في ميدان الصناعة, وأظن أن مصر يعوزها العمالة المدربة التي هي عصب التنمية أكثر من حاجتها للعلماء الموهوبين, لذلك فإن برامج التدريب المهني في أوساط الشباب ـ خصوصا من هم دون التعليم الجامعي ـ تعتبر مسألة بالغة الأهمية لأنها حرب علي البطالة واصلاح لنظام التعليم ودعم للتكنولوجيا الحديثة.
خامسا:ـ
ان القرنين التاسع عشر والعشرين قد شهدا تيارا ماديا كاسحا علي مستوي الفكر الانساني, فظهرت الماركسية التي تتحدث عن حرب الطبقات و,الداروينية التي تبحث في نظرية النشوء والارتقاء والفرويدية التي تعطي الجنس دورا حاسما في تفسير سلوك الانسان, والملاحظ أن محور هذه الأفكار الثلاثة الكبري هو الانسان بالدرجة الأولي ولكن من منطلق متقارب يمثل قاسما مشتركا بين تلك النظريات الثلاث يعتمد أساسا علي فلسفة مادية في تفسير التاريخ وحركة التطور وتكوين الانسان, جتي جاءت نسبية أينشتين لتكون انقلابا علميا ضخما تغيرت به مفاهيم وتفجرت له قوي وانطلقت معه طاقات, ولعل ما يمكن أن نطلق عليه الزويلية سوف يصبح امتدادا علميا جديدا يضيف الي قيمة الانسان ويكشف أمامه غوامض الوجود.
****
ان المراكز المضيئة لن تكون فقط مصادر اشعاع علمي وتجمع بحثي ولكنها سوف تكون ركيزة للتنمية الشاملة ومرحلة ضرورية نحو اللحاق بركب العصر, ولعل الحديث عن جامعة متخصصة تحت مظلة( العلوم والتكنولوجيا) يكون بداية لطريق طويل تشيع فيه ثقافة البحث العلمي في المجتمع المصري بعد طول انتظار فلقد كان أكثر ما أسعدني في الاحتفالية الزويلية أن أهمية مسألة العلم والتكنولوجيا قد بدأت تنتقل من أوساط المثقفين وأروقة الجامعات الي رجل الشارع الذي أصبح يربط في عفوية بين العلم الحديث وارتقاء مستويات معيشته وأساليب حياته.
وقد يقول قائل إن ما يجب أن تنفقه الدولة علي البحث العلمي هو مقتطع بالضرورة من ميزانية مجالات أخري, وقد غاب عن أصحاب مثل هذا الطرح أن البحث العلمي لم يعد ترفا اضافيا تستكمل به الدولة وجاهتها أمام الجيران, أو لافتة عصرية ترفعها الأمم في مواجهة الغير, ولكن واقع الأمر يؤكد ان القضية أخطر من ذلك بكثير لأنها تتصل بمستقبل الأجيال الجديدة كما تتحكم أيضا في استقلالية القرار الوطني, فالدولة التي تستورد التكنولوجيا بالكامل دون اسهام ذاتي من جانبها تظل عالة علي الآخرين وتبقي دائما تحت رحمة غيرها, بل انني أجازف هنا وأزعم ان التكنولوجيا المستوردة تختلف شكلا وموضوعا عن التكنولوجيا المتوطنة, فالدول المتقدمة قد تعطي تراخيص التصنيع لغيرها ولكنها تحتفظ بقدر من أسرار الصناعة وتجويدها حتي يظل الفرق بينها وبين غيرها قائما انني أظن ـ وأرجو أن أكون واهما ـ ان السيارات المصنعة لافريقيا والشرق الأوسط وغيرها من مناطق العالم الثالث قد تكون أقل دقة وجودة وكمالا من تلك المصنعة للاستخدام في أوروبا أو الولايات المتحدة.
دعونا نطرق أبواب البحث العلمي بجدية واستمرارية تكفلان تطورا حقيقيا لهياكل الاقتصاد القومي وترفعان من مستوي حياة الفرد وحدة الوجود الأولي وركيزة المجتمعات الآمنة, وليكن التركيز علي الموهوبين والاهتمام بالمتفوقين أمرين لازمين في رحلة المستقبل, لأن العبقرية تحتاج الي رعاية كما ان النبوغ لا يأتي من فراغ..
انني مع تكافؤ الفرص تماما بين الطالب القادر والطالب الفقير فذلك جوهر العدل الاجتماعي ومفهوم المساواة في المواطنة, ولكنني ضد تكافؤ الفرص تماما بين الطالب المجتهد والطالب البليد لأنه ينبغي علينا دائما احترام العقل المتميز وتقدير ذلك في مجمله يشير بأصابع الاتهام لفلسفة العملية التعليمية في بلادنا عبر العقود الأخيرة وتداعيات تلك الفلسفة الجامدة علي قضية البحث العلمي والتقدم التكنولوجي بصورة أدت الي اختفاء الموهبة ونزوح التفوق وهجرة العقول.
جريدة الأهرام
http://www.ahram.org.eg/Archive/2000/1/11/WRIT1.HTM