بلغت منذ يومين الخامسة والخمسين من عمري ورأيت أنها مناسبة لحديث صادق مع النفس وحوار صامت مع الذات يتميزان بالشفافية التي يرتفع بها الانسان عن كل الأهواء حتي يتمكن من رصد ماضيه وفهم حاضره, فقد كان أدب السية الذاتيةـ ولايزال ـ رافدا مهمة من روافد المعرفة الانسانية, ولكن الذي يعلو علي قيمة وفضلا هو أن نتحدث في شجاعة وشرف عن نوازع الصراع الداخلي الذي يعتمل في صدورنا ويصاحبنا في أغلب سنوات العمر, ولقد أدهشني منذ سنوات المفكر المصري الراحل د. لويس عوض عندما أصدر كتابه سنوات التكوين وبهرتني موضوعيته في بعض فقرات ذلك الكتاب إلي حد الذهول خصوصا عندما صور في صدق خليط المشاعر العائلية عند زواج فتاة من قريباته بمن يختلف عنها دينا, ثم حديثه عن قريبة أخري مريضة نفسيا, وإشارته إلي شعوره بأن أخاه ـ وهو أستاذ جامعي مرموق أيضا ـ قد عاني من أن شهرة أخيه قد حجبت عنه جزءا من حقه, وقد بدا لي كتاب المفكر الكبير وكأنه منافس لاعترافات جان جاك روسو, واكتشفت أنه لايقل شفافية عن غاندي عندما تحدث في شجاعة عن أخطاء شبابه, أو مذكرات سعد زغلول بما تتصف به من نقد ذاتي واضح خصوصا في مرحلة ماقبل انخراطه في العمل الوطني وقيادته لثورة1919 الشعبية, حيث كان يهوي لعب( الورق) بصورة بددت جزءا من ثروته. ولقد رأيت مناسبة عيد ميلادي مبررا للجلوس علي كرسي الاعتراف لاستكشاف الأركان الأربعة في تكويني الشخصي بما له وما عليه, وقد ميزت من بينها سمات رئيسية هي القلق والتأمل والفضول والموضوعية وحاولت أن أكون صادقا مع الذات أمينا مع الغير لأسباب لاتقف فقط عند الحدود الفاصلة للعمر, ولكن تتأثر أيضا بما ينعكس عليها من أننا نعيش فترة مفصلية تجمع بين قرنين وألفيتين في وقت واحد, كما أن قرب شهر رمضان يغري أحيانا بالارتقاء والسمو.
القلق
أعترف أن القلق قد صاحبني منذ سنوات الطفولة الأولي وظل رفيقا يؤرقساعات الصفاء ولحظات السعادة, وقد كان مصدر القلق الذي يعتادني دائما هو ذلك الشعور العميق بالخيط الرفيع بين الحياة والموت, والاحساس الدائم بأن لغز الوجود كله يمثل أمامي صخرة صلبة تتحطم عليها أحيانا كل موجات التفاؤل أو محاولات الخروج من دائرة التفلسف الذي لايخلو من حزن ولايبرأ من خوف, لقد كنت أسمع في طفولتي الباكرة أن يوم القيامة قد اقترب وأن النهاية قادمة, وظللت علي موعد دائم مع المفاجآت والتحديات والمصاعب وأصابتني حالة ترقب مستمر لما هو قادم, وكأنني أعيش دائما علي حافة الهاوية, كما تولدت لدي عبر رحلة العمر معاناة من نوع خاص تلازمني كلما انفردت بنفسي أو خلوت إلي ذاتي, فركوب الطائرة يقلقني برغم أنني طفت بها قارات العالم كلها تقريبا, ولقد سمعت حديثا لعالم نفسي شهير يقول فيه إن الناس جميعا يقلقون من رحلة الطائرة وبدرجات متفاوتة ولكنهم لايظهرن ذلك في الغالب وقد ظل ذلك المجهول يتربص بي دائما, وكلما ازدادت مساحة ما أعرف ازدادت أيضا مساحة ما لاأعرف, ولقد حاولت كثيرا أن أخفي قلقي بمسحة مرح أو روح سخرية ولكن بقيت المعاناة الذاتية قائمة وظل الطفل يصرخ في داخلي لايعرف السكينة ولايتوقف عن الوخز الدائم.. قلق من المجهول الغامض... قلق من المرض الطاريء. قلق من غدر الصديق... قلق من ركلات الغيرة لدي الآخرين.. قلق عام يرتبط بأوضاع الوطن وهمومه, بل إن صورة البطل يوم التنحي في عقب النكسة العسكرية مازالت تمثل لدي هاجسا قوميا يعتادني حينا فحينا.
التأمل
أضاع التأمل نسبة لابأس بها من عمري وحرق فترات طويلة من طفولتي وشبابي وكهولتي, وكان مرد ذلك دائما هو تلك التعددية اللعينة في مقومات شخصيتي, فأنا نصف شاعر وجزء من أديب, وشريحة من فنان وظل لمفكر... أهوي النظرة الشاملة للأمور وأمقت تجزئة الرؤية أو عشوائية الأولويات لذلك اتجهت لدراسة العلوم السياسية جريا وراء نظرية وحدة المعرفة التي تنطلق من وحدة الكون وتكامل أقاليم العالم, وقد كنت طالبا متفوقا يأتي ترتيبي الأول في دراستي قبل الجامعية, وكان ذلك بغير كر أو فر بين صفحات الكتب المقررة, وإنما بالتأمل فقط فيما أسمع بقاعة الدرس والتذوق العميق لموضوع البحث, بل إنني حصلت علي الدكتوراه من جامعة لندن بالعمل من خلال مرحلتين كانت إحداهما تجميعا روتينيا للمادة العلمية والثانية هي تأمل ماحصلت عليه وتطويعه لخدمة موضوع الأطروحة مستعينا برصيد من المعرفة العامة ومنهج في التفكير يعتمدان علي درجة مبالغ فيها من التنظيم إلي حد الوسوسة بل والدقة المرضية, فأنا شخص نمكي متأمل وواقعي حتي النخاع في الوقت نفسه, ولقد سبب الاستغراق في التأمل لدي شعورا مزدوجا من الكآبة والسعادة معا وإحساسا عارما بأهمية تأثير القدر في مسار الحياة وأهمية استثمار ما هو متاح والبعد تماما عن إهدار ماهو ممكن. وآمنت دائما بأن مايدرك كله لايترك كله, وظللت أفكر أيضا في تلك الحكمة المعروفة في ريف الدانمرك عندما تقول الأم المجربة لابنتها الفتاة إذا لم تتمكني من الارتباط بمن تريدنه فحاولي حب من يريدك!.
الفضول
لقد كان النهم للمعرفة بكل أبعادها ومصادرها مكونا طبيعيا لرصيد المعلومات والأفكار والرؤي عندي, بل إن ذلك النهم كان يستمد دافعة من فضول معرفي لايتوقف, وأعترف الآن في شجاعة أنني قد دفعت ثمنا لذلك عندما كلفني الاهتمام العابر والفضول الشديد موقعا شغلته عدة سنوات, فقد تصورت يوما أنني( راسين لوبين) الذي اكتشف منجما للأخبار.
والمعلومات المتجددة دون أن أكون حذرا كما يجب, أو يقظا كماتعودت, ولست نادما علي ماحدث لأنني أدرك أن المرء يتعلم من تجاربه ويستفيد من أخطائه, ولقد دفعني الفضول الغريزي منذ الطفولة والتساؤل المستمر عبر رحلة الحياة إلي مزيد من القراءة والبحث في مصادر المعرفة, فقد أنفقت في مكتبة البلدية بدمنهور فترات طويلة من سنوات الصبا الباكر, وسعيت للتعرف علي كل مايحيط بي من بشر عبر مراحل عمري, وعشقت رائحة التاريخ وتعاملت مع عنصر الزمن بغض النظر عن عامل المكان, وآمنت دائما بأن المعرفة قوة لاتقل قيمتها عن الثروة أوالسلطة, كما سعيت إلي توظيف الفكر في خدمة الحياة, وآمنت بأن البشر جميعا متساوون دون اعتبار لجنس أو لون أو دين أو لغة أو عقيدة فكرية أو ديانة روحية لذلك تعلمت من الصغار قبل الكبار, وأفدت من البسطاء مثل الوجهاء وعشت حياتي لا بالطول والعرض ولكن بالعمق أيضا.
الموضوعية
أصابني داء الموضوعية علي كبر, وخضعت كثيرا لمقولة المفكر الراحل لطفي الخولي عن( جلد الذات) وتولدت لدي عقدة ذنب دائمة تجاه المرضي والفقراء والمستضعفين, وتحول النقد الذاتي إلي برنامج يومي يشتد مع ساعات المساء وقبيل النوم, فأنا أعترف بيني وبين نفسي بقدر من هم أفضل مني ولا أعيش أسير وهم التميز علي الآخرين كما يحدث لكثير من الناس, وأعتبر أن كل مرحلة هي فصل مستقل في كتاب يتم إغلاقه فور الانتهاء من قراءته حتي لا أقع فريسة ذكريات موقع مضي أو أوهام سلطة زالت, والموضوعية صفة مفقودة في حياتنا المعاصرة حيث تجري عملية خلط دائم بين العام والخاص, إذ نشهد دائما محاولات يومية لتحويل المصالح الشخصية إلي قضايا عامة واحيانا أخري بتحويل المسائل العامة إلي مصدر للتجريح الشخصي وتشويه صورة الغير, ولذلك فإن النظرة المحايدة والتجرد الموضوعي هما علاج اجتماعي وأخلاقي لازم خصوصا في عصر تعددت فيه الرؤي وتجاورت المفاهيم وشاعت معه ثقافة الديمقراطية ولغة الحوار الحر, ولعل مقولة الإمام الشافعي عن أن رأيه صواب يحتمل الخطأ ورأي غيره خطأ يحتمل الصواب هي عبارة خالدة في التاريخ الاسلامي تسبق الفكر الليبرالي المعاصر إذ يقابلها بعد ذلك في التراث الغربي مقولة فولتير الشهيرة عن استعداده لأن يدفع حياته ثمنا للدفاع عن صاحب رأي يختلف معه, ولقد ساعدتني الموضوعية في الخروج من كثير من المآزق وحسم عدد كبير من القرارات لأنني اعترفت بحدودي الذاتية وأخلصت لنفسي النصيحة حتي أكون صادقا مع الذات قبل الغير, ولم انجرف يوما وراء سراب, نعم.. قد تطغي العاطفة أحيانا, وقد يتحكم الهوي أحيانا أخري ولكن مساحة ذلك التجاوز قد تقلصت كثيرا عبر السنين.
ولقد آمنت أخيرا بأن الانسان ابن ظروفه التي أحاطت به ونتاج البيئة الفكرية والاجتماعية التي عاش فيها, كما أدركت من كل المرموقين الذين التقيت بهم في مجالات العلم والفكر والثقافة ومراكز السلطة والحكم والسياسة أن الإنسان هو الانسان مهما علا شأنه أو تواضع قدره وأن توزيع الأدوار في الحياة قد جاء في كثير من الأحيان عبثيا ولاهيا, واكتشفت أن القوة الخالقة قد شاءت أن تسود نمطية تلقائية بين المخلوقات وأن العدل منطوق نظري وأن المساواة مفهوم تجريدي, فهناك من يولد موهوبا وهناك من يولد معاقا, وهناك من تحظي بقدر من الجمال وهناك من حرمت منه منذ لحظة الميلاد, وآمنت أيضا بشئ يقترب من تعادلية توفيق الحكيم فاقتنعت بأن لكل مخلوق رصيدا من النقاط في حياته قد يأخذها صحة او جاها أو ثروة أو ذرية وقد يفقد بعضها ومع ذلك تتولد لديه درجة من القناعة تعطيه السعادة المرجوة, كما تيقنت كذلك أن تعظيم القدرات ممكن وأن تنمية الذكاء وتنشيط الذاكرة أمران ميسوران بالتدريب المنتظم لأن حدود العقل البشري أوسع بكثير من ذلك القدر الذي جري استخدامه منه, كما أن الزمن المرصود من عمر الانسان والتاريخ المكتوب للجنس البشري كلاهما يبدو قشرة سطحية في عمر الكون الذي قد يزيد علي مئات الملايين من السنين, والمثير حقا أن الرسالات السماوية لم تهبط علي أرض البشر إلا من بضعة آلاف من السنين لتعبر عن مرحلة من الرقي الانساني لم تكن موجودة من قبل, لذلك استقر في يقيني منذ سنوات ان مصداقية التاريخ البشري واساطير الأولين انما تنبع فقط من الآثار الباقية أو الرموز القائمة وليس من مجرد السرد الذي لايستند الي أساس مقبول أو وثيقة مؤكدة, وقد تمكنت عبر رحلة العمر من ترويض الذات ونجحت الي حد ما في التخلص من الانفعال الزائد وحدة المزاج المتقلب والتوتر الذي لا مبرر له وقاومت ذلك الاحساس العابر بعدم الأمان والذي كان يجتاحني أمام مشاعر الكراهية لي ـ من طرف واحد ـ اذا نشأت.
ولكنني أعترف أن فاتورة الحساب لذلك كله كانت غالية الثمن عالية التكاليف خصوصا عندما يقترن الذكاء بالعاطفة ويصنعان معا ثنائيا مزعجا علي مدار سنوات العمر.
***
هذه خواطر يوم المولد, اقترنت بلحظات من التجرد الصادق والموضوعية الكاملة لكي تصفو النفس ويستريح الضمير, ويهدأ العقل الذي يرفض أكثر مما يقبل ويجادل أكثر مما يصمت, ويفكر بغير انقطاع في كون بلا حدود.
جريدة الأهرام
http://www.ahram.org.eg/Archive/1999/11/16/WRIT1.HTM