لن استطرد في الاشارة الي أمجاد الطب في مصر الفرعونية التي عرفت الحكيم قبل غيرها من أمم الأرض, كما لن استطرد في التحدث عن انجازات الطب في مصر الاسلامية التي نقلت عنها أوروبا العصور الوسطي من خلال الحضارتين الأغريقية والرومانية, ولكنني أود فقط التذكرة بالتاريخ الحديث في بلادنا عندما انشأ كلوت بك مدرسة الطب المصرية في عهد محمد علي والتي أوفدت خريجيها في بعثات متصلة لتبادل الخبرات ونقل تكنولوجيا الطب المتقدمة مع عدد من دول أوروبا القرن التاسع عشر حتي أصبح للطبيب المصري اسم مدوأ في المحافل العلاجية والمؤسسات الصحية ولعلنا لانزال نذكر أسماء لامة لكواكب مضيئة في سماء الطب المصري المعاصر من أمثال نجيب محفوظ وعلي ابراهيم وعبد الوهاب مورو ومظهر عاشور وغيرهم من اساطين الطب الحديث في بلادنا والذين قامت علي أكتافهم وأجيال أخري تلتهم ممن تعلموا علي أيديهم تقاليد مهنية راسخة تحققت بها تلك السمعة الطيبة للطبيب المصري في المنطقة العربية والقارة الأفريقية بل وعلي الصعيد الدولي أيضا, حتي أن اسم مجدي يعقوب جراح القلب العالمي لايذكر إلا مقترنا بأصله المصري ودراسته بقصر العيني في جامعة القاهرة, فالطبيب المصري كان دائما مضرب الأمثال في ذكاء اليدين والقدرة علي التشخيص الواعي واكتشاف أعراض الأمراض الخطيرة بأقل الامكانات المتاحة, وظل الأمر كذلك حينا من الدهر الي أن طرأ علي الساحة الطبية في المنطقة العربية عاملان:
أولهما: أن غيرنا قد أصبح لديه كوادر طبية تعلمت في مصر أو في جامعات أوروبا والولايات المتحدة بالأضافة الي إمكانات مادية كبيرة توفر لهم الأجهزة المتطورة والمعدات الحديثة.
ثانيهما: إن الأمر قد أخذ اتجاها عكسيا حيث طغي منطق الكم علي منطق الكيف وأصبحت لدينا أعداد هائلة من خريجي الطب في ظل جامعات اقليمية جديدة بما أدي الي هبوط مستوي الخريجين وانخفاض قيمة شهادة الطب المصرية مع صعوبة التقاط العناصر النابهة في مثل تلك الظروف مضافا الي ذلك النقص الواضح في مهنة التمريض في مواجهة الأعداد الكبيرة من المرضي مع قلة في الإمكانات وقصور في الموارد.
ورغم هذين العاملين ظلت مصر المعطاءة تقذف بأفواج من الأطباء المشهود لهم بالتفوق العلمي والتمرس المهني والبراعة العلمية, كما لايزال للطبيب المصري سعره الخاص في سوق العمالة الصحية في الدول العربية والقارة الأفريقية, ولن أنسي ما حييت تلك النشوة التي أصابتني عندما كنت أجري فحصا طبيا روتينيا منذ شهور في( فيينا) وساقتني الظروف الي لقاء مع البروفسور النمساوي الشهير
Michael Marberger
أستاذ المسالك في مستشفي ال
-AKH
الكبري وعندما رأيت أن اجامله بترديد ما يقال عن أنه أكبر خبير في تخصصه علي المستوي الأوروبي أجاب في تواضع إن ذلك مؤكد علي مستوي النمسا علي الأقل! ثم أضاف ولكننا جميعا تلاميذ البروفسور الكبير
Ghoniem of Mansoura
مشيرا الي الطبيب المصري العالمي الأستاذ الدكتور محمد غنيم مؤسس مركز الكلي في جامعة المنصورة ثم أضاف الطبيب النمساوي المرموق أنه يوفد الأطباء النمساويين الي مركز الدكتور غنيم في المنصورة للتعلم والتدريب تماما كما كان أجداده يوفدون من يطلبون علم وخبرة الشيخ ابن سينا في مرحلة زاهرة من تاريخنا العربي, ساعتها شعرت أن قامتي تطول وأن كبريائي الوطني يزداد شموخا, ولحظتها قررت أن اتطرق للكتابة في مسألة استعادة مجب الطب المصري من جديد في إطار النهضة المصرية الحالية والصحوة الوطنية القائمة, ولعلنا نتساءل الآن ما هو الطريق لتحقيق ذلك في ظل ما هو متاح لدينا؟ إنني أوجز ذلك في عدد من الأفكار أهمها:
1- لابد من حسم الصراع الدائر علي ساحة التعليم الطبي بين مؤيدي فتح الابواب في ظل مفهوم الكم وقبول الأعداد الكبيرة في كليات الطب المصرية وبين دعاة التركيز علي الكيف وقصر الالتحاق بكليات الطب علي أعداد معقولة تتناسب مع إمكانات تلك الكليات من حيث عدد وكفاءة الأساتذة ووفرة الأجهزة والمختبرات مع التوقف عن انشاء كليات جديدة للطب إلا في ظل شروط علمية ومهنية دقيقة وكفي ما كان.. ولعلي أتحمس في ذلك مع نقيب الأطباء الأستاذ الدكتور حمدي السيد في موقفه الحاسم من هذه المسألة علي امتداد السنوات الأخيرة.
2- قد يكون الازدواج مقبولا أو محتملا في قطاعات كثيرة ولكن حين نصل الي القطاع الصحي فإن الأمر يختلف بالضرورة ونحن في مصر نعاني في الطب- كما في التعليم- حالة ازدواج بين الخاص والعام والفارق بينهما مسافة واسعة تبلغ في طولها نفس المسافة بين الفئات القادرة والطبقات محدودة الدخل في بلد مازال الفقر فيه ضيفا ثقيلا علي الأغلب الأعم من سكانه, لذلك فإن المراجعة الشاملة لأساليب التعليم الطبي والعلاج الصحي في وقت واحد هي مسألة ضرورية لمواجهة ذلك الازدواج القائم.
3- سوف تظل قضية( التأمين الصحي) واحدة من أمهات المشكلات في طريق الرعاية الصحية لدينا وليس ذلك أمراجديدا ننفرد به, فحتي الدول المتقدمة في أوروبا- بدءا من بريطانيا صاحبة الريادة في التأمين العلاجي- قد بدأت تراجع ما كان قائما وتعترف بصعوبة تحقيق الأهداف المطلوبة في ظل الإمكانات المتاحة, وعلاقة التأمين الصحي بالتعليم الطبي وثيقة لأن كليهما يصب في قناة الصحة العامة للشعب, ولقد حظيت مسألة التأمين الصحي الشامل باهتمام عدد من وزراء الصحة الذين تعاقبوا علي المنصب ولكنها بقيت شاغلا يؤرق كل من يعنيه رفع كفاءة الخدمة الصحية وحمايتها من التلاعب وسوء الاتسغلال.
4- إن الطب الاستثماري الذي بدأنا نعرفه علي نطاق واسع في السنوات الأخيرة قد بدأ يشكل هو الآخر ظاهرة تستحق الدراسة من حيث أسعاره وحجم إفادة الطبقات غير القادرة منه, وذلك يذكرني بمقال قرأته منذ سنوات عن المدارس الثلاث لحل مشكلات النقل و المواصلات في الدول النامية حيث ساق كاتب ذلك المقال النماذج الثلاثة بدءا من النموذج الأمريكي الذي ينادي بالاعتماد علي السيارات الخاصة للأفراد والتوسع في ملكيتها بعدد أفراد الأسرة الواحدة في مجتمع الرفاهية داخل الولايات المتحدة الأمريكية, بينما يعتمد النموذج الأوروبي علي دعم النقل العام والارتقاء به حتي يقل عدد السيارات الخاصة نتيجة جذب المواصلات العامة المريحة لسواد الناس في مجتمع منظم تبدو العلاقات بين أطرافه سوية نسبيا, أما النموذج الآسيوي فهو يعتمد علي وسائل تلائم البيئة وتبدو متاحة فيها وميسورة للمواطن العادي من دراجات وسيارات صغيرة ذات موتور محدود القوة( السكوتر وغيره من المركبات ذات العجلات الثلاث), وبين هذه النماذج الثلاثة كان علي الدول النامية أن تختار, ومن عجب أننا فضلنا في مصر منذ البداية النموذج الأمريكي في مواجهة مشكلات النقل في ظل شبكة طرق محدودة, فظهرت مشكلات المرور بصورتها الحادة, ونفس النمط من التفكير ينسحب علي الأخذ بمنطق الطب الاستثماري وخلق واحة علاجية لايتطلع اليها إلا من يقدر عليها وهو نفس المنطق الذي حكم أيضا مسألة التعليم الاستثماري في بلادنا أيضا.
5- سوف أظل أنعي علي أمتنا العربية تقصيرها في دعم الطب المصري علي أرضه لأسباب تلحق بغيرها من عوامل الفرقة وإهدار فرص التكامل بين الأشقاء, أما كان الأجدي بمن يملكون الثروة العربية توظيف جزء منها لأقامة مراكز علاجية عالمية علي أعلي مستوي في مصر تحت ادارة مشتركة للإفادة من الخبرة العريقة للطبيب المصري الذي لاتنقصه إلا الامكانات والموارد التي تتيح له الحصول علي أحدث ما في تكنولوجيا الطب من أجهزة ومعدات؟, فلو أن الإخوة العرب يفكرون وفقا لنظرية الميزة النسبية لكل قطر عربي لأدركوا أن العنصر البشري متميز وفائض في مصر وأن الطبيب المصري مشهود الكفاءة ذائع الصيت ولأقاموا صروحا طبية ضخمة في مصر تستوعب الكفاءآت الطبية المصرية والعربية أيضا وجعلوا من تلك المراكز الصحية نقاط استقطاب للمرضي العرب والمصريين, ولو وفرنا جميعا تلك النفقات الهائلة التي ننفقها علي علاج مواطنينا في الخارج ولحدث التزاوج المنطقي بين الطبيب المصري والامكانات العربية ولكن ذلك لم يحدث, وظلت هذه فرصة ضائعة أخري تلحق بعشرات الفرص الضائعة التي تخصصنا فيها نحن العرب.
فإذا كانت تلك هي ملاحظات مبدئية حول الطب المصري, فإن الحديث عنه يستدعي الاشارة إلي عالمية المهنة, فالطبيب يكاد يكون صاحب المهنة الوحيدة الذي يستطيع أن يعمل في كل مكان وأي زمان, فجسد الانسان واحد لايختلف لأسباب جغرافية أو عرقية أو عقائدية, صحيح قد تكون لبعض الأمراض المتوطنة جنسيات معينة وفقا للظروف المناخية أو طبيعة الغذاء الغالب, ولكن تبقي في النهاية تلك المساواة الالهية بين البشر في لحظة الميلاد الأولي ولحظة الرحيل الأبدي وما بينهما من أمراض عابرة أو مشكلات صحية مزمنة, كما أن أجساد العظماء تتساوي أيضا مع أجساد الدهماء, ومازلت أذكر حديثا لوزير الصحة المصري عند وفاة الرئيس عبدالناصر حين نقل جثمانه عقب الوفاة مباشرة إلي قصر القبة لحين تشييع الجنازة الرسمية, وكان معاونوا الرئيس الراحل قلقون علي بقاء الجثمان يومين في ثلاجة القصر, وحاول زميلهم الوزير إفهامهم يومها أن جسد عبدالناصر زعيم الأمة لايختلف عن جسد أبسط الناس, إنها حكمة الخالق, والحد الأدني من المساواة الذي أراده بين مخلوقاته, فإذا كان الطب بهذا المنطق الإلهي الخالد مهنة عالمية لاتختلف باختلاف البعدين الزماني والمكاني, فإن ذلك يفتح بالضرورة آفاقا واسعة أمام الطب المصري علي الصعيدين الاقليمي والدولي, وقد كانت المنطقة العربية ـــ إلي عهد قريب ــ هي ساحة الوجود الطبي المصري, بينما تبدو القارة الافريقية بديلا مكملا في السنوات الأخيرة, وكم تكون سعادتنا بالغة ونحن نسمع عن أسماء شهيرة لأطباء من أصل مصري في كافة التخصصات علي امتداد الخريطتين الدولية والاقليمية لأن خبرة الطبيب المصري تنطلق من الممارسة العلمية الواسعة في ظل وفرة بشرية تحتوي علي كل الأمراض بل وتسمح أحيانا بالتجربة في بلد لايزال فيه خطأ الطبيب غير مقنن بشكل محدد حتي الآن.
***
والآن هل نستطيع أن نضع تصورا لأساليب النهوض بمهنة الطب من جديد لكي تستعيد مجدها المعروف وتسترد عافيتها الدائمة, إننا يمكن أن نفكر في ذلك علي عدة محاور:
أولا: ضرورة إعادة النظر في سياسة الأعداد الكبيرة داخل كليات الطب المتعددة وأهمية الوعي بأهمية حسم هذه القضية لصالح منطق الكيف وليس منطق الكم, لأن احتمال سياسة الأعداد الكبيرة قد يكون ممكنا في بعض المهن ولكن حين يأتي الأمر لمهنة الطب فلابد من وقفة شجاعة وصارمة لأن مجال عمل الطبيب هو الكيان البشري ذاته بكل ما يحمله من قيمة وما يعبر عنه من أهمية, لذلك فإن التمحيص الكامل عند اختيار طبيب المستقبل هو أمر بالغ الأهمية, وبهذه المناسبة فإنني لا أعترض علي وراثة مهنة الطب من الآباء والأمهات إلي الأبناء والبنات باعتبار أن هؤلاء عاشوا في بيئة طبية قد تكون عاملا إضافيا لتعزيز كفاءة ذلك الجيل الثاني, ولكنني أطالب بأن يتم ذلك في إطار القواعد الصحيحة مع الالتزام الكامل بتكافؤ الفرص بين جميع طلاب الطب دون تحيز أو محاباة أو تجاوز أو تفرقة لسبب ديني أو اجتماعي.
ثانيا: إعطاء مهنة التمريض كل جوانب الاهتمام بما يكفل لها أسباب الارتقاء, ونحن نعترف بكل الجهود المبذولة خصوصا تلك التي دعت إليها السيدة الأولي في مصر, ولكن نظرة المجتمع لهذه المهنة الانسانية مازالت تنعكس علي نوعية الاقبال عليها وطبيعة الوافدين لها.. فالتمريض رسالة قبل أن يكون مهنة. ولعل معظم الشكوي في مستشفياتنا تجعل دائما من التمريض قاسما مشتركا فيها.. وليست العبرة في التمريض بالشهادة الجامعية أو المؤهل الدراسي بقدر ماهي خبرة الممارسة وحسن الخلق ويقظة الضمير, بل إن المقارنة بين الطب في بلادنا ونظيره في الدول الأكثر تقدما تؤكد دائما أن التمريض هو الذي يمثل الجزء الأكبر من الفجوة بيننا وبينهم وأنه هو الثغرة الأولي في نظامنا العلاجي والوقائي معا.
ثالثا: الارتقاء بقدرات الطبيب الفكرية والشخصية والتي تعتبر من العوامل التي ترفع مهارته عند التشخيص الذي يقوم علي النظرة الشاملة والقدرة علي الربط بين المظاهر المختلفة التي قد تكون انعكاسا للبيئة المحيطة علي المرضي الذين يتعامل معهم, فالطبيب دقيق الملاحظة هو القادر علي استنباط أساليب العلاج من دراسة الأعراض المتاحة, كما أن ثقافة الطبيب لا تبدو ترفا إضافيا ولكن هي في الحقيقة مقوم أساسي في شخصيته لأنها تلعب دورا هاما في فهم ظروف مرضاه وما يحيط بها من قيم وانفعالات ومشاعر, أنا لا أريده أن يكون في حكمة( أبوقراط) أو موسوعية( الرئيس ابن سينا) أو ثقافة( أبوبكر الرازي) ولكن لابد له أن يكون ملما بأطراف التركيبة البشرية القائمة في المحيط الذي يعمل فيه.
رابعا: لقد آن الأوان لحسم مسألة الحديث المتكرر عن نقص الامكانات, فهذا الحديث كان محتملا من قبل ولكن التجارب الحديثة أثبتت أن الامكانات ليست هي كل شئ كما أنها ليست العائق الوحيد لكل تقدم, هل تحتاج النظافة العامة إلي امكانات أم إلي أخلاقيات؟ هل الاهتمام بالتعقيم في المستشفيات والعيادات مسألة تكلفة, أم مسألة وعي وضمير بالدرجة الأولي؟ بل هل قضية تمريض بكل أبعادها نابعة من نقص الموارد البشرية أم من تهافت بعض القيم الاجتماعية؟ هذه كلها تساؤلات تجيب عليها حقيقة واحدة وهي أن الطب والتمريض رسالتان وليستا مجرد مهنتين, والدليل علي ذلك أن المستشفيات الاستثمارية التي لاتعاني من نقص في الامكانات لأنها تقدم لمرضاها عند انتهاء العلاج ــ سواء بالوفاة أو استرداد العافية ــ أفدح الفواتير, هي ذاتها تعاني من معظم مشكلات المستشفيات الحكومية التي لاتملك نفس الامكانات, فالمشكلة تنبع من المجتمع القائم ثم تنعكس عليه بالتالي.
خامسا: إن قضية ثمن الخدمة الطبية سوف تبقي هاجسا يؤرق ضمير المجتمع ما لم نتمكن من حسمها وفقا لمعياري التكلفة الحقيقية في جانب, والمسئولية الاجتماعية في جانب آخر مع أهمية تحقيق التوازن بينهما في ظل روح المجتمع الواحد الذي نريد أن يتحقق فيه حد أدني من الرعاية الصحية للفقراء ومحدودي الدخل, فهذه ليست قضية أخلاية فقط ولكنها أيضا جزء من سلسلة متصلة الحلقات, فلن ينعم القادرون في مجتمع مريض الجسد, عليل النفس, مهتز القيم, مضطرب الرؤية..
هذه بعض تصورات مواطن مصري تجاه مهنة شديدة الأهمية في حياة الشعوب ومستقبل الأجيال, رأيت أن أطرحها ــ في حيدة وموضوعية ــ لأنني أتطلع إلي يوم قريب يستعيد فيه الطب المصري أمجاده, وليس ذلك اليوم في ظني ببعيد..
جريدة الأهرام
الطب المصري.. استعادة المجد..