ونحن نعيش الأشهر الأخيرة من القرن العشرين, فإننا نعترف بأنه كان قرن الثورات الشعبية, والانقلابات العسكرية بينما كان القرن الذي سبقه هو قرن الثورات الفكرية والانقلابات السياسية, وتبقي في النهاية تلك المعايير الفارقة بين التحركات الثورية والحركات الإصلاحية لتكون هي الفيصل امام محكمة التاريخ, فالثورة إجراء عنيف في مجمله يعبر عن مرحلة من الغضب ودرجة من الانفعال مع رفض كامل لمعظم ما هو قائم, بينما الاصلاح نزعة تدريجية تستند إلي فكر محدد وتنطلق من رؤي واضحة وكأنها تطبيق عملي للمقولة الشهيرة إن مالايدرك كله لايترك كله فالفارق بين الإجراءات الثورية والحركات الاصلاحية يبدو كالفارق بين مدرستين في الطب تؤمن الأولي بالتدخل الجراحي السريع وتعتمد الثانية علي العلاج طويل المديري بالعقاقير وكلا المدرستين لها وجهة نظرها واسلوب تعاملها, كذلك فان لكل منهما ايضا أولوية في مرحلة معينة, فالتدخل الجراحي حتمي في حالة الالتهاب الحاد للزائدة الدودية مثلا بينما قد يحسن العلاج بالعقاقير في حالات الالتهاب المزمن الذي لايصل إلي مرحلة الخطر, وتبقي الشعوب دائما هي الشريك الأساسي عند التقويم فهي التي تسدد فواتير الثورات والانقلابات بما تدفعه ثمنا لتخدير الشعارات وانفعال المواقف, وهي التي تتحمل ايضا نفقات الاصلاح طويل المدي وتكاليف انتظار نتائجه بعد وقت قد يطول.
وتظل التفرقة الجوهرية بين مفهوم الثورة ونزعة الإصلاح متمثلة بالدرجة الأولي في طبيعة الإجراءات الاستثنائية التي ترتبط بالثورات دائما وتؤدي إلي تعطيل الديمقراطية احيانا, كما تكمن بعض عناصر التمييز كذلك في حجم التركيز الذي يقترن بحركات الإصلاح والذي يعطي زعماءه أدوارا لاتخلو من مبالغة ولاتبرأ من غموض, فالثورة الفرنسية عرفت العنف وشهوة الانتقام, كما ارتبطت الثورة البلشيفية بالدماء وبقيت معها استثناء امتد مع عمر النظم السياسية التي خرجت من عباءتها وتلطخت بالدماء كذلك السنوات الأولي للثورة الإسلامية في إيران, بينما عرفت الثورة المصرية درجة من الاعتدال بالمقارنة بغيرها وارتبطت بالشخصية المصرية الذاتية, ولم تفقد هويتها في زحام السيطرة الدولية للقوي العظمي في ظل تأثيرات الحرب الباردة, واذا كان الخلط بين الثورة الشعبية والانقلاب العسكري, خصوصا في النصف الثاني من القرن العشرين, قد جعلهما مترادفين تقريبا, إلا انه يجب الاحتكام إلي الأسس الفكرية والمصادر الفلسفية للتفرقة بين الحالتين, فاتاتورك ـ بغض النظر عن تقويمنا لدوافعه الحقيقية ـ قد غير وجه الحياة في بلاده واصبح بحق الأب الشرعي لتركيا الحديثة, بينما لم تحقق معظم الانقلابات العسكرية في افريقيا إلا مجرد تغيير الوجوه في السلطة واستبدال مجموعة من الضباط بأخري.
ويهمنا بالدرجة الأولي في هذا المقال أن ننظر الي مصر القرن العشرين في محاولة جادة وعادلة للرد علي دعاوي خصوم ثورة يوليو1952, وسوف نوجز في النقاط التالية أهم المطاعن التي وجهت اليها في إطار التقييم الموضوعي لها:ـ
أولا: يري تيار من المعادين لثورة يوليو المصرية ان الاوضاع القائمة قبلها ـ برغم كل مساوئها ـ كان يمكن ان تكون نقطة انطلاق لتطور سياسي وتقدم اقتصادي دون الحاجة إلي ذلك الحدث الضخم الذي ادي إلي نوع من التوقف المفاجيء لمسيرة التطور الطبيعي للأمور, فمصر لم تولد ليلة23 يوليو ولكن قبل ذلك بآلاف السنين, كما انها كانت علي الصعيد الخارجي دولة مهمة في اقليمها قبل الثورة ايضا حتي انها كانت مرشحة للعضوية الدائمة بمجلس الأمن اثناء المناقشات التحضيرية التي مهدت لقيام الامم المتحدة, أما علي الصعيد الداخلي فقد عرفت مصر قبل1952 وجود أقطاب للنمو حاولت تحريك قاطرة الوطن إلي الامام بل ان اسهامات مايمكن تسميته بالارستقراطية المصرية المتمثلة اساسا في عدد من افراد اسرة محمد علي والمحيطين بها تعتبر شاهدا علي ذلك حيث نجد اسماء لأمراء واميرات مثل عمر طوسون ويوسف كمال وعباس حليم وفاطمة اسماعيل ونازلي فاضل التي تبدو كلها كرموز للمشاركة في العمل الوطني التطوعي والنشاط الاجتماعي الخيري قبل1952 الذي تمثل في دعم الحركة الوطنية أو العناية بالفنون الجميلة أو مناصرة حقوق العمال أو الاسهام في إنشاء جامعة أو إقامة صالون ثقافي, ويبرر اصحاب هذا الرأي وجهة نظرهم ايضا من خلال الاشادة ببعض الممارسات النيابية والمواقف البرلمانية في مصر خلال الفترة مابين الثورتين19 و1952 ويستشهدون بمضابط مجلسي النواب والشيوخ الحافلة بالمواقف الشجاعة لعدد من نواب الامة, ويضيفون إلي ذلك إشارة أخري للقدر الذي كان متاحا من حرية الصحافة ويكفي ان نتذكر هنا ان احسان عبدالقدوس هو الذي كشف فضيحة الاسلحة الفاسدة امام الرأي العام قبل الثورة وليس بعدها, كما ان الحياة الثقافية ازدهرت ايضا في تلك الفترة, وارتبطت بعدد من اعلام الفكر ورموز السياسة في وقت واحد, ولكن تظل هذه كلها اراءا مردودا عليها جملة وتفصيلا, اذ لم تكن الاوضاع السائدة قبل1952 تحمل اي احتمالات واعدة نحو الافضل, فالتركيبة التي كانت قائمة من قصر فاسد ـ ملكا وحاشية ـ ووجود اجنبي ضاغط, فضلا عن تفشي مظاهر الفقر والجهل والمرض, لم تكن كل تلك المعطيات مصدرا لأمل في تطورإيجابي محتمل بل كان المجتمع المصري في حاجة إلي هزة عنيفة تعيد إلي المصريين الثقة بالنفس, وتفتح ابواب المستقبل امام حركة التاريخ.
ثانيا: يردد غلاة المتحدثين باسم التيار المعادي لثورة1952 قولهم إن كافة الإصلاحات والإنجازات التي حققتها مصر بعد الثورة كان من المقرر حدوثها في إطار التطور الطبيعي لحركة النظام السياسي المصري والنشاط الاقتصادي للدولة دون الحاجة الي اللجوء إلي اجراءات إستثنائية ارتبطت بالثورة وسنواتها الأولي, فقانون الإصلاح الزراعي كان مطروحا منذ الأربعينيات( مشروع محمد خطاب ومريت غالي ثم أفكار ابراهيم شكري بعد ذلك في برلمان1950), أما مشروع الثورة الضخم( السد العالي) فقد تناولته دراسات مصرية كثيرة منذ تعلية خزان أسوان الثانية, كما أن الفكر القومي لثورة23 يوليو والذي تبلور منذ منتصف الخمسينيات وتوجته دولة الوحدة بين مصر وسوريا قد سبقته هو الآخر إرهاصات كثيرة قبل الثورة كانت علامتها البارزة قيام جامعة الدول العربية وإتخاذ القاهرة مقرا لها في منتصف الأربعينيات في ظل حكومة وفدية كانت تتولي السلطة بزعامة مصطفي النحاس باشا, وهكذا تبدو كل أفكار ومشروعات الثورة المصرية ـ في نظر غلاة هذا التيار ـ مجرد بعث لأفكار سابقة وليست نتاجا جديدا لروح الإبتكار الثوري أو التجديد السياسي, وذلك قول عبثي فالعبرة ليست بما يتردد ولكن بما يتحقق, والدول الحديثة لا تبنيها أفكار نظرية دون أن يكون لها وجود حقيقي في ظل تعبئة قومية وحشد وطني, كما أن الإطار السياسي والهيكل الاقتصادي والخريطة الاجتماعية لمصر قبل الثورة مباشرة لم تكن كلها مقومات تسمح بتحقيق إنجازات كبيرة أو طفرات ضخمة دون الإطاحة أولا برموز قائمة مع تغيير شامل لتركيبة العلاقة الوثيقة التي كانت تربط بين السلطة والثورة في مصر قبل1952.
ثالثا: يحاول أصحاب هذا التيار أيضا ضرب الثورة المصرية في مقتل بتقويض أبرز إنجازاتها الوطنية والتي نقلت زعامة قائد الثورة عبدالناصر من المستوي الوطني المحلي الي الصعيدين القومي والدولي وكانت بداية الانبهار بشخصيته وتدشين مكانته, وأعني بذلك ضربته التارخية بتأميم قناة السويس في يوليو1956 بعد انسحاب البنك الدولي من تمويل مشروع السد العالي استجابة منه لضغوط الدبلوماسية الأمريكية والغربية عموما والتي كانت قد بدأت تستشعر القلق من( الكولونيل ناصر) الذي يهدد مستقبل مصالحها في الشرق الأوسط, ويزعم أصحاب هذا التيار أن تأميم القناة بما جره علي مصر من عدوان في أكتوبر1956 لم يكن له ما يبرره, أذ أن امتياز الشركة العالمية لقناة السويس كان سينتهي بقوة العقد في عام1969, وعلي ذلك فإن التعجيل باسترداد القناة ثلاثة عشر عاما قبل موعده الطبيعي لم يكن يستحق ذلك الثمن الذي دفعته مصر, وهذه مغالطة حقيقية وفرية كبري, فالأمور لا تؤخذ بهذا الشكل, والتاريخ لايتم تقيمه بهذه الصورة, فالدلالة الوطنية لتأميم القناة وممارسة الإرادة المصرية من خلال ذلك القرار الوطني الفريد كانت هي الإنجاز الحقيقي أمام العرب والعالم, فقناة السويس علامة بارزة في تاريخ مصر الحديث منذ حفرها ومد عقد امتيازها حتي تأميمها, ولم يكن المطلوب هو مجرد إستعادة حق ملكية أو إدارة القناة ولكن كان القصد هو الإعلان أمام المجتمع الدولي كله أن في مصر نظاما سياسيا يصحح أخطاء الماضي, ولا يقبل الاستمرار في قبول عقود الإذعان التي فرضتها ظروف تاريخية معينة علي الشعب المصري.
رابعا: يتحدث أصحاب التيار المعادي لثورة يوليو المصرية أيضا ـ علي استحياء دائما وبشكل مباشر أحيانا ـ عن أن الثورة كانت انقلابا عسكريا قام به الجيش المصري وأطاح فيه بالملك ورموز عهده بصورة جعلت للمؤسسة العسكرية المصرية الدور الرئيسي في إدارة شئون البلاد والسيطرة علي دفة الحكم, وهو قول مردود عليه من سجلات تاريخ العسكرية المصرية نفسها التي تمثل وعاء وطنيا ضخما يحتوي أبناء الفلاحين والعمال وفئات الشعب الأخري دون تفرقة أو تمييز, فضلا عن أن الجيش المصري كان دائما جزءا لايتجزأ من شعبه, لا ينفصل عنه ولا يتعالي عليه منذ تخلص من العناصر الشركسية والتركية فيه, فضلا عن أنه ظل دائما مصنعا للرجال الذين يتحملون المسئوليات الكبري, ومفرزة للقيادات الوطنية, من صفوفه خرج أحمد عرابي وعزيز المصري ومحمد نجيب وجمال عبد الناصر وأنور السادات وحسني مبارك وغيرهم من رموز الوطن في مراحله المختلفة, كما أن دور المؤسسة العسكرية في تحديث الحياة المصرية وقيام الدولة المصرية هو أمر لا يخفي علي ذي بصيرة, ومازلت أذكر حتي الآن يوم أن قامت الثورة ـ وكنت طفلا في الثامنة ـ فرحة أبي كجزء من فرحة الوطن بتحرك الجيش لإنقاذ البلاد من وهدة الفساد التي تردت فيها أمور السياسة والحكم, بل أن شعبية حركة23 يوليو1952 حقيقة لاتحتاج إلي برهان ولا يماري فيها إلا كل من يغمض عينيه أمام حركة التاريخ ومسيرة التطور.
خامسا: نأتي هنا إلي نقطتين مهمتين في ملف المطاعن التي يوجهها خصوم الثورة المصرية لها وأعني بهما غياب الديمقراطية ونقص المشاركة السياسية في جانب, ثم افتقاد الوعي بقيمة التراث الثقافي في جانب آخر, وهنا اعترف بأن الدفوع قد لاتصمد طويلا أمام هذين الاتهامين, إذ أن اختفاء الديمقراطية من مسرح الحياة السياسية في مصر بعد1952 قد اقترن بممارسات أحادية لمفهوم التنظيم السياسي الواحد بدءا من هيئة التحرير مرورا بالاتحاد القومي وصولا الي الإتحاد الاشتراكي وكلها تنظيمات لاتنهض بديلا للأحزاب السياسية التي تمثل أوعية التعددية المطلوبة, ولعلي أظن أن الرئيس عبدالناصر قد اكتفي بشعبيته ـ وقد كانت كاسحة بكل المقاييس ـ بديلا عن قوات الديمقراطية, واعتبر الحماس الشعبي المؤيد له بعد كل إجراء ثوري إستفتاءا علي نظامه ومعيارا لشعبيته, أما إتهام الثورة المصرية بتغييب رموز التراث الثقافي المصري وإصطناع قراءة جديدة لتاريخ مصر الحديث فهي تمثل مسألة لا تخلو من صحة تجعلنا نقول بكل نزاهة أن إهمال مصر الثورة للقصور الملكية والتماثيل التاريخية وتغيير أسماء الشوارع في محاولة لمحو صفحات من ماضي مصر هي كلها تصرفات غير مبررة, برغم تسليمنا بميلاد حركة ثقافية وفنية شاملة حمل لواءها ضابط مستنير هو الدكتور ثروت عكاشة بطل انقاذ آثار النوبة عند البدء في مشروع السد العالي, ولكنني لا أنسي أبدا أننا كنا نذهب لقصر عابدين للتطعيم ضد الملاريا والحمي الصفراء عند السفر للخارج, كما أن مأساة تمثال اسماعيل باشا ـ صانع نهضة مصر العمرانية وصاحب محاولة التحديث المعروفة ـ هي نموذج آخر يشهد علي صحة جزء كبير من ذلك الإتهام, وهو أمر يحيرني كثيرا إذ ان الثورات الكبري ـوحتي الدموية منها ـ حافظت علي تراث الأنظمة السابقة, فلم يمس بلاشفة محتويات الكرملين ولم ينالوا من مكانته, وهكذا فعل الثوار عقب وصولهم للسلطة في دول مختلفة, أما عمليات السطو علي مقتنيات القصور الملكية في مصر خلال السنوات الأولي من الثورة فهي تعبر عن تصرف غير مسئول وطنيا وأخلاقيا, وكم أسعدنا في السنوات الأخيرة أن تلك القصور أصبحت تنال من الرعاية والإهتمام ما تستعيد به رونقها وتسترد معه مكانتها.
ويظل التساؤل في النهاية مطروحا هل الإصلاح التدريجي يمكن أن يكون بديلا كاملا عن الثورة المفاجئة؟.. الإجابة عن ذلك تقتضي دراسة ظروف كل بلد علي حدة, وطبيعة المعطيات التي صنعتها الجغرافيا, والتراكمات التي جاء بها التاريخ, وقد تكون الثورات لازمة لشعوب مقهورة تحتاج إلي الخلاص من خلال العلاج بالبتر, ولكن يبقي الاصلاح ضرورة لاستكمال ما تأتي به الثورات من عوارض جانبية وآثار سلبية, وقد يكون فكر الإصلاح حتميا بعد إجراءات الثورة, والمصلحون دائما ينطلقون من خلفية فكرية بينما ينطلق الثوار من دوافع وطنية, وليس خطأ مطلقا ذلك القول الذي يري أن الثورة انفعال وأن الاصلاح تفكير, فالأفغاني ومحمد عبده وغاندي ومارتن لوثر كنج مصلحون الي حد الثورة, ولكن ارتبط كل اسم منهم برؤية يطرحها وفكر يؤمن به, فالأفغاني داعية اتحاد كلمة المسلمين وإصلاح شأنهم, ومحمد عبده مصلح ديني واجتماعي رفيع القدر, وغاندي ثائر مصلح اعتنق نظرية اللاعنف وطرح مبدأ المقاومة السلبية, ومارتن لوثر كنج هو شهيد إصلاح المجتمع الأمريكي ومواجهة العنصرية وإضطهاد السود فيه, أما كرومويل ولينين وعبدالناصر وكاسترو فهم اسماء ارتبطت بالثورة ضد أوضاع معينة, نجح بعضهم وأخفق البعض الآخر, إذ لاتبدو نهايات الثوار دائما سعيده, بينما قد تكون نهايات المصلحين ذات تأثير أكثر عمقا في تاريخ الأمم والشعوب, إنني أري المستقبل مع حركة الإصلاح, وأكاد ألمح بواكير التطور الإنساني القادم وهي تعانق فكر المصلحين أكثر من ترحيبها بانفعال الثوار.
وها هي مصر بعد قرابة نصف قرن من الثورة تخوض حركة إصلاح كبري في كل نواحي الحياة وزوايا الوطن, إنها بلد الرخاء التاريخي التي تطل علي بحرين عظيمين, وتمتد حدودها عبر مياه نيلها إلي أعماق القارة الإفريقية, ويقترن اسمها بالحضارات الباقية والمجد الذي لايزول.. إنها مصر التي تحتاج إلي حركة إصلاح اجتماعي تستكمل بها عملية الاصلاح الاقتصادي والتي تتوجها في النهاية مسيرة الاصلاح السياسي.
جريدة الأهرام
http://www.ahram.org.eg/Archive/1999/7/27/WRIT1.HTM