رب يوم بكيت منه فلما مضي بكيت عليه', حكمة يرددها حاليا خبراء العلاقات الدولية, ويعترف بقيمتها المهتمون بالدراسات السياسية خصوصا عندما يعقدون مقارنة سريعة بين الأمس القريب واليوم الحاضر, فقد كانت سنوات الحرب الباردة مريحة في الدراسة,سهلة عند التحليل,حيث كانت خريطة الدنيا مقسمة بين العالمين الشيوعي والرأسمالي, وبينهما مساحة واسعة من دول أخري رقص بعضهاعلي السلم,محتفظا بصداقة الاتحاد السوفيتي السابق مع سعي صامت لتحسين العلاقات مع الولايات المتحدة الأمريكية في ذات الوقت,حتي كانت صورة العالم الثالث في مجمله تقوم علي تعاطف سياسي مع' موسكو'وتطلع اقتصادي لواشنطن, وكان من اليسير عند التعرض للبحث في مشكلة دولية معينة اكتشاف خريطة توزيع الولاء بين القوتين العظميين في الصراعات الدولية المختلفة, والتعرف بسهولة علي مواقف الأطراف وفقا لانتماءاتهم الأيديولوجية وولاءاتهم السياسية,ولكن منذ انتهاء سنوات الحرب الباردة التي امتدت لقرابة خمسة واربعين عاما بدأنا نشهد تحولات ضخمة,وتغيرات واسعة,بحيث امتزجت الالوان,واختلطت الأوراق,وأصبح من العسير الآن اكتشاف من يساند من؟ذلك أن مواقف الدول لم تعد مستندة الي أسس ايديولوجية أو مواقف عقائدية,ولكنها تخضع لمفهوم' براجماتي'بحت ينطلق من نظرة قومية آنية,ومصلحة سياسية مباشرة,كما أضحت عملية تأديب النظم المختلفة أمرا معتادا سواء تم ذلك تحت غطاء من مظلة مجلس الأمن أو عباءة من حلف الأطلنطي,فالمشهد واحد, والفصول مكررة, والنتائج متشابهة,ولعل الصورة تبدو أكثر وضوحا من متابعة هجمات قوات الاطلنطي علي النظام الصربي,الذي ارتكب أبشع الجرائم وافظع الانتهاكات ضد البان' كوسوفا',امتدادا لتاريخ القومية الصربية في ايجاد النزاعات وافتعال الصراعات,والسعي لعمليات الإبادة الجماعية في ظل مفهوم عنصري للتطهير العرقي بلا سند انساني أو تاريخي أو قانوني,فالحرب العالمية الأولي بدأت بطلقات رصاص صربية أودت بحياة ولي عهد النمسا في' سراييفو'عام1914',ولم يكبح جماح الصرب بعدها إلا أيديولوجية ماركسية اسقطت من حساباتها العامل القومي,وصهرت الاتحاد اليوجوسلافي في بوتقة عقائدية واحدة انتهت بسقوط الاتحاد السوفيتي السابق, وانفراط عقد ماكنا نسميه بالكتلة الشرقية.
..والذي يهمنا في هذا المقام هو أن نتناول تأثير عملية اختلاط الأوراق ـ التي حدثت منذ انتهاء الحرب الباردة واختفاء ماكان يطلق عليه النظم الشيوعية ـ علي مواقف الدول في الصراع الحالي بمنطقة البلقان,إذ نكتشف أن هناك ظلالا من الاختلاف,ودرجات من التفاوت,في مواقف الدول تجاه ذلك الحدث الواحد برغم ما بينها من تقارب يصل إلي حد التحالف,فاسرائيل تغازل الصرب بشكل ضمني, وتركيا تأخذ موقفا مختلفا لأسباب تاريخية معروفة, مع أن كلتيهما شريك في تحالف استراتيجي تحت الراية الأمريكية المعاصرة,وبذلك لم يعد سهلا أمام المعنيين بالشئون الدولية تصنيف مواقف الدول وفقا لهويتها الايديولوجية المعلنة,كما كان الأمر من قبل, بل أصبحت المواقف متداخلة, والصورة غير واضحة, وظهرت ظلال متفاوتة بين الألوان المتباينة, ورغم كل ذلك فإنني مازلت أري أننا لسنا بصدد عالم جديد,ولكن أمام عالم مختلف خرجنا فيه من أجواء الحرب الباردة الي طقوس القيادة الواحدة للنظام العالمي,ودليلي في ذلك أن البنية القانونية للمجتمع الدولي ومنظماته العالمية لم تتغير شكلا علي الأقل, كما أن هيكل العلاقات الدولية مازال قائما بعناصره السابقة مع تسليمنا بأن نظرية سيادة الدولة قد تعرضت في السنوات الأخيرة لهزة عنيفة تحتاج معها الي مراجعة صريحة من شراح القانون الدولي بعد أن كان مفهوم تلك النظرية قد استقر لقرون طويلة.
وإذا كان لنا أن نسجل في هذه المناسبة ـ تعليقا علي ما يجري ـ بعض الافكار فإننا نوجزها فيما يلي:
أولا: إن عمليات'الأطلنطي'الأخيرة هي في ظني أكبر عملية عسكرية في أوروبا منذ الحرب العالمية الثانية, فلقد ظل الغرب طوال سنوات الحرب الباردة وبعدها مشاركا في أعمال عسكرية خارج حدود أوروبا والولايات المتحدة حيث قادت الأخيرة في العقود الخمس الماضية مواجهات عسكرية حادة في كوريا وفيتنام ولبنان والصومال والعراق مع عمليات خاطفة في السودان وأفغانستان فضلا عن بعض دول أمريكا اللاتينية وغيرها من بقاع العالم المختلفة, أما ماحدث أخيرا في صربيا فهو أمر مختلف وله دلالته الخطيرة, فهو يعني أن الغرب يحارب علي أرضه,إذ لا نكاد نعرف للعمل العسكري علي الأرض الأوروبية ـ في العقود الأخيرة ـ إلا سوابق محدودة ومن طرف واحد أيضا,ونذكر في ذلك أحداث المجر عام1956,في غمرة انشغال العالم بأحداث حرب السويس1956, والتدخل السوفيتي الذي أدي الي اعدام رئيس الوزراء في بودابست'إمري ناجي',كما كان التدخل السوفيتي العسكري في تشيكوسلوفاكيا عام1968 سابقة أخري لذلك النوع من العمل العسكري من طرف واحد علي أرض أوروبا في سنوات الحرب الباردة,ولذلك فإن قيام قوات الاطلنطي بقيادة الولايات المتحدة الأمريكية بضرب عاصمة أوروبية هي'بلجراد'يعتبر أمرا فريدا وحدثا جديدا سوف تكون له تداعياته في المستقبل القريب والبعيد.
ثانيا: سوف تتأثرالعلاقات الأوروبيةـ الأمريكية بما جري حتي وإن لم تظهر بوادر ذلك الآن, فقد أصبح واضحا لكل ذي بصيرة أن الولايات المتحدة تريد أن تقول للعالم أن يدها أطول مما يتصور الجميع, وأن آلة الحرب الحديثة بالتكنولوجيا المتقدمة قادرة علي أن تعطي' واشنطن'ميزة التأديب من طرف واحد في أية بقعة من أنحاء العالم دون محظور أو مانع, وهذه النقطة لها دلالتها الخطيرة علي وحدة أوروبا ذاتها وتقييمها المشترك لرؤية واحدة تجاه مستقبل الدور الأمريكي في أوروبا وربما في العالم برمته, فإذا كانت روسيا مكبلة بظروفها الاقتصادية, وإذا كانت تطلعات دول شرق أوروبا نحوعضوية الاتحاد الأوروبي من ناحية, وأملها في عضوية'الناتو'من ناحية أخري تحولان دون ابداء مشاعر الاستياء بصورة حادة تجاه'واشنطن', فإن أن ذلك لا يمنع أن هناك احساسا أوروبيا عاما بالقلق لما حدث, والتخوف من أن يكون ذلك مقدمة لسلسلة من الاضطرابات العنيفة في منطقة البلقان وشرق أوروبا وربما وسطها أيضا.
ثالثا:إن غياب التصور السياسي للنتائج المحتملة للعمليات العسكرية التي قامت بها قوات الأطلنطي هو في حد ذاته معضلة حقيقية, فقد كنا نعرف قبل بدء العمليات العسكرية أن هناك مأساة انسانية في اقليم' كوسوفا'الذي تقطنه اغلبية من أصول البانية مسلمة,بينما أصبح الموقف الآن كارثة انسانية بكل المقاييس والأبعاد والنتائج,حتي أنني استطيع أن أزعم من استقراء الأحداث أن' واشنطن'وحلفاءها لم يضعوا مسبقا تصورا متكاملا لأهداف العمليات العسكرية في صربيا, واتفقوا فقط علي كيفية البداية ولكن لم يحددوا بالضبط شكل النهاية,وفي مثل هذه الظروف فإن التوقعات تبدو غامضة, كما أن كل الاحتمالات تظل مفتوحة أمام تداعيات أكثر سوءا,ومواقف أشد تدهورا.
رابعا: اذا كان ماحدث قد أدي الي بعض الارتياح لدي المسلمين في العالم بمنطق أنهم ليسوا وحدهم المستهدفين دائما بعمليات التأديب الأمريكي ـ قتالا أو حصارا ـ وتصور البعض منهم وهما أن الولايات المتحدة الأمريكية تدافع عن البان'كوسوفا'لأنهم مسلمون مقهورون,إذا كان الأمر كذلك فإنه يستتبع بالضرورة عملية إعادة تقييم ـ من جانب أصحاب هذا الوهم ـ لما حدث, ومراجعة ما جري,لأن القضية في نظر حلفاء الأطلنطي تبدو خالية تماما من بعدها الديني,فهي تقوم أساسا علي منطق سياسي يمثل جزءا من استراتيجية الحلفاء الغربيين في ظل الهيمنة الأمريكية التي بدت سافرة في السنوات الأخيرة.
خامسا:إن عمليات الاطلنطي في البلقان هي تعزيز جديد للدور الأمريكي المعاصر, وتأكيد لتفرده في عالم اليوم,فلابد أن الرسالة قد وصلت الي أركان الدنيا الأربعة لكي يعلم الجميع أن الولايات المتحدة الأمريكية وحلفاءها مستعدون لكل المغامرات العسكريةفي أي مكان من العالم, لا تمنعهم قداسة أرض أوروبية, أو حصانة بقعة غربية, فأداة الحرب الحديثة مستعدة للمران في أي وقت, وجاهزة لفتح النيران في أي مكان.
سادسا:إن تردد الموقف العربي الاسلامي تجاه العمليات العسكرية للأطلنطي فوق صربيا له ما يبرره,فنحن نقع في دائرة صراع حقيقي بين اتجاهين متعارضين أولهما ينطلق من المأساة الإنسانية لمسلمي'كوسوفا'ــ وهي مأساة بالغة الضراوة بكل المقاييس ـ مع شعور عميق بالتعاطف الانساني والديني,والاحساس بأن مسلمي أوروبا هم المستهدفون دائما,مرة في البوسنة والهرسك وأخري علي أرض الشيشان, وثالثة في إقليم' كوسوفا',أما اتجاه الجذب الثاني الذي يؤثر في الموقف العربي الإسلامي فهو الإحساس بأن ماحدث يمثل سابقة أخري لها مخاطرها علي استقرارالعالم وسيادة الدول, فلقد أصبح التدخل العسكري المباشر ـ بغض النظر عن مظلته ـ ظاهرة جديدة ترتبط بالعولمة من جانب, وبإعادة ترتيب الأوضاع لمصلحة السياسة الأمريكية من جانب آخر, والخاسر في النهاية هو المواطن العادي في الدول التي ينالها العقاب العسكري, بينما يحظي حكام تلك الدول في هذه الحالة بشهادة ميلاد جديدة ترسخ وجودهم وتقوي قيادتهم, فالشعوب تدفع الثمن, والقيادات تحصد نصرا وهميا.
سابعا:وهنا نأتي الي أخطر النقاط علي الإطلاق فنحن نري أن الذي حدث في ظل العمليات العسكرية الأخيرة في البلقان هو نوع من التطهير العرقي الكامل, وتحويل البان'كوسوفا' الي لاجئين حقيقيين علي حدود الدول المجاورة, وتوزيع نسبة منهم علي الدول الغربية لانهاء هويتهم وتصفية وجودهم, وكأنما الهدف هو القضاء النهائي علي البان' كوسوفا', وانهاء المشكلة بشكل مختلف, فالعمليات العسكرية رغم قسوتها قد تحولت الي مبرر صربي جديد لتفريغ'كوسوفا'من مسلميها, وأصبح القصف الجوي للأهداف الصربية غطاء سياسيا لقوات الصرب لكي تعربد في أرض الاقليم, وتعمل علي اخلائها من كل ماهو غير صربي, وهذه مسألة تؤخذ علي أولئك الذين خططوا للضربات العسكرية دون أن يستوعبوا تداعياتها السياسية واحتمالاتها الاقليمية.
وقد ظن البعض أنه ربما كان الدافع لعمليات' الناتو'في البلقان ينطلق من صراع كنسي دفين بين الأرثوذكس والكاثوليك في أوروبا, أو أنه ينطلق من خلافات قومية بين الصرب السلاف من ناحية والقوميات الأوروبية الغربية من ناحية أخري, كما رأي بعض آخر أن الهدف بعيد المدي من العمليات العسكرية هو تأديب الجزء الباقي من أوروبا الموحدة قبل أن يلحق بقطار رفاقه السابقين في بولندا والمجر وجمهورية التشيك علي الطريق نحو عضوية الاتحاد أو الحلف أو هما معا, فالولايات المتحدة الأمريكية تسعي لتوسيع مساحة أوروبا الموالية,وتحطيم النظام العصي في'بلجراد'لأن سيدة العالم لا تريد فقط أوروبا الموحدة ولكن تريدها أيضا أوروبا الحليفة, وهكذا يبدومؤكدا أن دوافع الولايات المتحدة وحلفائها لا تنطلق من رغبة أخلاقية في حماية المسلمين,ولكن تنطلق من أسباب سياسية ومصالح قومية لا علاقة لها بالعامل الديني,فلن تحارب قوات الاطلنطي من أجل سواد عيون مسلمي أوروبا, أوحماية لهويتهم الضائعة, ووجودهم الذي يتعرض للفناء في ظل واحدة من أسوأ كوارث مايسمي بالتطهير العرقي في التاريخ المعاصر.... ولن أختتم هذه السطور دون أن أروي ماذكره لي صديق مسيحي من أصل عربي يحمل الجنسية الكندية ويعمل في' منظمة الأمن والتعاون الأوروبي' التي تتخذ من' فيينا'مقرا لها, وهي منظمة مارست دورا مهما في متابعة ماجري وما يجري في إقليم'كوسوفا',لقد روي لي ذلك الصديق يوم عيد الأضحي, وكان عائدا لتوه من'بريشتينا'في آخر مهمة لهم هناك قبيل العمليات العسكرية حيث كانوا يقومون بعملية اخلاء مؤقت لمقر المنظمة في' كوسوفا' أنهم فوجئوا بقيام القوات الصربية بتنفيذ حكم الاعدام الفوري في كل الموظفين المحليين بمكتب المنظمة الدولية من المسلمين الألبان الذين كانوا يعملون مع المنظمة الأوروبية في سابقة غير معهودة,وكان الصديق شديد الحزن والتأثر وهو يحكي لي عن زملاء عرفهم في المكتب الذي عمل به,وقتلهم الصرب بعد ساعات من رحيل زملائهم متجاوزين كل الأعراف والحدود,منتهكين كل القوانين الطبيعية والوضعية,خارجين علي كل العقائد والديانات السماوية..
جريدة الأهرام
http://www.ahram.org.eg/Archive/1999/4/20/WRIT1.HTM