دفعني إلي التطرق لهذا الموضوع سؤال أجاب عنه السيد الرئيس في لقائه الأخير مع طلاب الجامعات في معهد اعداد القادة بحلوان حين سأله طالب عن نصيحة الرئيس للشباب الذي يرغب في ممارسة العمل السياسي, وقد تضمنت اجابة السيد الرئيس تأكيدا واضحا لحرية الشباب في الاختيار دون قيد عليهم, ويثير هذا السؤال من جديد ذلك النقاش الدائم علي الساحة السياسية حول العمل السياسي للشباب, ويمكن هنا تحديد الإطار العام لهذه القضية في ثلاثة أسئلة محددة وهي:
(1) هل لابد من اشتغال الشباب بالعمل السياسي؟
(2) هل نعني بالعمل السياسي مرادفا كاملا لمفهوم الاشتغال بالحياة العامة؟
(3) هل يتحقق ذلك من خلال توجه الشباب نحو الأحزاب السياسية القائمة أم من خلال تنظيم واحد يجمع الشباب علي المستوي القومي كله؟
والإجابة السليمة عن هذه الأسئلة الواضحة هي المدخل الحقيقي لدراسة هذه المسألة, فلقد تعلمنا ان طرح امر ما للمناقشة يستوجب بالضرورة طرح عدد من الأسئلة الموضوعية حوله, فإذا تناولنا التساؤلات الثلاثة السابقة فإنه يتعين علينا أن نناقشها علي النحو التالي:
أولا: إن التساؤل حول مشروعية اشتغال الشباب بالعمل السياسي هو تساؤل يحتاج الي مراجعة لأنه لا جدل في حق, ولا مناقشة لأمر مستقر, فالأصل في الحياة كلها أنها سياسية بالدرجة الأولي, فالاقتصاد يعتمد علي سياسة, وتطور المجتمع يحتاج الي سياسة, والازدهار الثقافي لا يتحقق الا بالسياسة, اذ ان السياسة لابد ان تصدر عن رؤية, والرؤية قرين الوعي, وتوءم المعرفة, لذلك فإن انكار حق الشاب في العمل السياسي هو امر غير وارد, قد نناقش تنظيمه او اسلوب الاعداد له, ولكننا لا نجادل في حقيقة ان الشباب المسيس اقدر علي خدمة بلاده من نظيره الذي قطع صلته الكاملة بالحياة العامة والأهداف الوطنية, والأمم التي حرمت شبابها حق المشاركة السياسية, وعزلته عن واقعها حصدت في النهاية هشيما تذروه الرياح العاتية في عالمنا المعاصر, كذلك فإن سعي الشباب للخدمة العامة والتصدي للعمل السياسي هما تعبير واحد عن اختفاء الأنانية وظهور روح شابة تتسم بالحيوية وتتصف بالإيثار وتغليب العام علي الخاص في كل الظروف, أما تلك الأمم التي تمكنت من اجراء عملية تعبئة لشبابها, واعطته مساحة كافية من الحرية, ووضعت امامه قدرا مطلوبا من المعلومات الصحيحة, فقد تمكنت هذه الأمم من ارتياد طريق المستقبل وطرق ابوابه المغلقة في صلابة وثقة, ولسنا نعني بالتسييس ان يشتغل توافر بالضرورة في العمل السياسي, ولكننا نعني تور قدر كاف لديهم من الحقائق المحيطة بهم, والظروف التي ترتبط ببلدهم مع تأكيد خصوصية اوطانهم, وتشجيع احترام الشخصية القومية لديهم حتي تتهيأ لهم في النهاية حصيلة مناسبة من الرؤية الشاملة, والنظرة المتكاملة.
ثانيا: لا ينبغي ان يتبادر الي الذهن اننا نفصل بين الحياة العامة والعمل السياسي, اذ اننا نعتبر النشاط الفئوي, والتمثيل في النقابات او اتحادات العمال والطلاب, كلها نماذج للعمل العام الذي يجب ألا يكون بالضرورة سياسيا بالمفهوم الكامل له علي مستوي الدولة, فليس المطلوب ان يتحول الشباب الي سياسيين, او ان يتفرغوا للعمل السياسي العام, ولكن المطلوب هو إحساسهم بالمشاركة في صياغة المستقبل الذي يريدونه, والخروج من شرنقة العزلة والتخلص من روح اللامبالاة مع وجود روح واقعية تسمح لهم بمتابعة كل ما يجري, واستشراف ما هو قادم, لذلك فإن محاولة الخلط أو الفصل بين العمل السياسي والحياة العامة هي وقوع في المحظور, اذ ان واقع الأمر هو ان كل عمل سياسي يندرج تحت مظلة الحياة العامة, ولكن ليست كل الحياة العامة سياسية بالضرورة, فالنشاط الأدبي, والإبداع الفكري, والإثراء الثقافي, والتفوق الرياضي كلها نماذج للنشاط في الحياة العامة دون أن تكون انخراطا في العمل السياسي, أو انغماسا في تياره.
ثالثا: إذا كنا قد سلمنا بأهمية تسييس الشباب من حيث المبدأ, فإن السؤال الحاكم في هذه المسألة هو طبيعة هذا التسيس وتحت أي مظلة يتم, ومن اي فكر ينطلق؟ وهنا لابد من التسليم بوجود نظريتين يثور بين أصحابهما جدل واسع حول اسلوب اشراك الشباب في الحياة السياسية, واسهامهم في النشاط العام بمظاهره المختلفة, ولكل من الفريقين دوافعه ومبرراته, وإن كانت لا تخلو في مجملها من صبغة عقائدية في النهاية تعبر عن فكر أصحاب كل فريق وانتماءاتهم السياسية, والفريق الأول يري ان العمل السياسي للشباب يجب ان يتم في إطار مركزي يعتمد علي مفاهيم وطنية عامة دون التقيد باتجاه حزبي ودون تبني فكر بذاته علي اعتبار ان الشباب رصيد الوطن كله وهو الخامة التي تتشكل منها شخصية المستقبل ومن الظلم ان نتركها فريسة للانقسامات الحزبية, اذ لابد من تجميعها في اطار تنظيم وطني واحد يعزز الخطوط العريضة لسياسة الدولة ويروج لكل مشاعر الانتماء لترابها الوطني, ولكن يرد علي فكر هذا الفريق عدد من المحاذير نسوقها في النقاط الأربع التالية:
أ ـ إن حشد الشباب في إطار تجربة مركزية واحدة ومن خلال تنظيم سياسي موحد قد يؤدي الي الوقوع في خطيئة القولبة بحيث نكتشف بعد فترة ان شبابنا قد اصبح يجيد الهتاف اكثر مما يجيد التفكير, ويميل الي التصفيق اكثر من ميله للبحث والتأمل, وقد نكتشف في النهاية اننا قد وضعناه في اطار قوالب جامدة لا تصنع فكرا حرا ولا تخلق سياسيا سويا.
ب ـ ان اللجوء الي مفهوم تنظيم سياسي واحد لشباب الجامعات والعمال والفلاحين وغيرهم سوف يؤدي بالضرورة الي استدعاء تلقائي لتجربة سابقة تختزنها الذاكرة الوطنية واعني بها تجربة منظمة الشباب في النصف الثاني من الستينيات بكل ما لحق بها من سلبيات, وما قيل عنها من ملاحظات, ومادار حولها من اجتهادات, ويجب ان اعترف هنا بانني اري لتلك المحاولة التاريخية ايجابياتها ايضا, فلقد عشت شخصيا فترة داخل تلك التجربة او قريبا منها وأحسب انها قد ظلمت الي حد كبير وسلبتها ظروف سياسية تالية كثيرا من مظاهرها الإيجابية, بل انني ازعم انها قد افرزت نماذج سياسية ادت دورا في الحياة العامة وتفوقت فيها بدءا من الساحة السياسية وصولا الي بعض الرموز الناجحة في القطاع الخاص مرورا بكوادر متميزة في اجهزة الدولة المختلفة, ولو ان هذه التجربة لم تستخدم في الصراع السياسي بين مراكز القوي السياسية القائمة في تلك الفترة, ولو لم يتم اجهاضها باحداث نكسة67 فإن بريقها كان يمكن ان يكون اكثر سطوعا علي نحو يسمح لنا بتقويم مختلف يمكن ان يعطيها قدرا اكبر من القيمة عن تلك التي تحققت لها.
جـ ـ ان ابرز مثالب التجربة المركزية للتنظيم الشبابي الواحد انه يولد في احضان السلطة, وقد اثبتت التجربة ان كل تنظيم يولد في احضان السلطة يعيش عالة عليها, ولا يبلغ سن الرشد بالمعدل الطبيعي لنظيره الذي يولد في الشارع السياسي, فالتنظيم السياسي الواحد قد يتحول الي اضافة مكررة لتنظيمات اخري قائمة, ويبدو دائما وكأنه محمية بشرية تعطي اصحابها امتيازا دون ان يقدموا في المقابل جهدا يحسب لهم, او رصيدا يبقي لمستقبلهم.
د ـ ان التفكير في صيغة شبابية واحدة لن يبرأ من شبهة الغموض بسبب التداخل بين الأجهزة والمؤسسات المتوازية في ذلك الميدان من جامعات ومؤسسات وهيئات ومجالس للشباب والرياضة, ونواد اجتماعية, وتجمعات شبابية, ويؤدي ذلك الي صدامات عرضية تحتاج دائما الي محاولات لفض الاشتباك وتحديد الاختصاصات ومراجعة التجربة, وكلها أمور تجعل المسألة صعبة التصور, وتحتاج الي وضوح رؤية مسبق, ووحدة فكرية كاملة تجاه الهدف الواحد منذ البداية.
.. فإذا انتقلنا الي دعاة انخراط الشباب في مستهل حياتهم في الأحزاب السياسية المختلفة, فإننا نواجه ايضا عددا من المحاذير لا تقل في صعوبتها عن تلك التي لحقت بأصحاب رأي الفريق الآخر, ويمكن أن نحدد تلك المحاذير في النقاط التالية:
1 ـ ان قبول انضمام الشباب الي الأحزاب السياسية مباشرة يحمل في طياته مخاطر التمزق والتشرذم والانقسام منذ البداية في وقت لا يكون فيه فكر الشباب ناضجا, ولا يكون وعيهم كاملا, ونكون بذلك قد سلمنا لكل الاتجاهات السياسية مادة خامة يجري تشكيلها وفقا لضمير من يناط بهم التصدي لتحمل تلك المسئولية, وهو امر لا يخلو من مخاطر لأن الشباب في هذه الحالة يكون ناقص التجربة محدود الرؤية مع حماس شديد وطاقة زائدة وتطلعات غير محدودة نحو المستقبل المجهول.
2 ـ إن التربية السياسية هي مسئولية الأحزاب ووظيفتها التقليدية في معظم دول العالم إلا أن احتمال استغلال التجمعات الشبابية الوافدة اليها من جانب بعض القيادات الحزبية هو امر وارد واحتماله كبير في ظل تنافس حزبي محتمل, والتفاف محموم حول شخوص ورموز قد لا تعكس بالضرورة صورة المستقبل الباهر بقدر ما تعكس من اضواء الماضي الشاحب.
3 ـ إن الأحزاب القائمة علي الساحة السياسية المصرية حاليا تعاني أزمة واضحة في التنظيم والقيادة معا, وأخشي ما نخشاه هو أن يجري تصدير هذه الأزمة إلي جموع شبابنا, فليس خافيا علي أحد أن الحياة الحزبية في مجملها هي أضعف ما في النظام السياسي المصري كله, وأقل مؤسساته تأثيرا لأسباب يرجع بعضها إلي التاريخ القريب, ويرجع بعضها الثاني الي الواقع الحالي, كما ينصرف بعضها الآخر الي طبيعة المصري الذي لا يبدو حتي الآن حزبيا ناجحا رغم انه وطني مخلص.
4 ـ إن حالة الترهل التنظيمي والشيخوخة الفكرية, وتشابه البرامج الحزبية, هذه كلها من العوامل التي تتناقض مع روح الشباب, وتصطدم بحماسه وانفعاله, ورغبته الدائمة في التغيير, وتطلعه المستمر نحو المستقبل, ولذلك فإن الرهان علي الأحزاب القائمة في تسييس الشباب هو نوع من المغامرة غير محسوبة العواقب, غير مضمونة النتائج, غير مأمونة الآثار, علي الرغم من أن الأصل في الوظيفة الحزبية أنها مدرسة لتخريج الكوادر السياسية, وتدريب القيادات الجديدة, وتسييس الأجيال الشابة, ولكن الواقع يبدو أمرا مختلفا وهو ما يعزز النظرة القلقة لأصحاب الانتقادات الموجهة للفريق الداعي لانضمام الشباب مباشرة ـ في مطلع العمر ومقتبل الحياة ـ الي الأحزاب السياسية دون اساس نظري او اختيار فكري او وضوح لهوية وطنية كاملة.
.. هذه في معظمها المحاذير التي ترد علي مستقبل العمل السياسي للشباب المصري سواء أكان ذلك علي الصعيد المركزي لتنظيم شبابي واحد أم من خلال انخراطهم الحر في الأحزاب السياسية القائمة, والأمر في ظني قد لا يكون بأحد الخيارين وحده بل قد يمكن الوصول الي الهدف وتحقيق اقصي التجربة من خلال المقترحات التالية:
أولا: إن اللجوء الي مرحلة تمهيدية تعتمد علي التوعية والتثقيف, والتوازن بين معطيات العصر والتكنولوجيا الحديثة من جانب وبين الحفاظ علي الشخصية القومية والاهتمام بالهدف الوطني العام من جانب آخر يمكن ان يتم تحت مظلة مركزية تشمل الوطن بكامله وبمختلف مؤسساته الحكومية وغير الحكومية من أجل إيجاد حد ادني من الوعي السياسي والنضوج الفكري لشبابنا دون وصاية عليه, أو فرض معطيات معينة أمامه, لأن الشباب بطبعه يفضل ان يصل الي مرحلة الاقتناع بنفسه, وان يحقق بالاجتهاد الذاتي رؤيته الخاصة, فهو لا يقبل التلقين, ولا يتحمل المنولوج السياسي المكرر, ولكنه يحتاج دائما الي محاولة غير مباشرة للربط بين الواقع الذي يعيشه وطموحاته الشخصية من جانب والخطوط العريضة لسياسة الدولة وصورة المستقبل من جانب آخر.
ثانيا: إن التركيز في المدارس بدءا من سنوات الطفولة الباكرة علي قضايا الوطن وإشراك الأجيال الجديدة فيها هي أمور لازمة لتحقيق البداية الطبيعية لأي انتماء سياسي للشباب بعد ذلك, ويكفي ان نتذكر هنا ان غياب الوعي القومي لدي اغلبية الشباب وتفشي روح اللامبالاة فيهم والنأي عن الحياة العامة بل وازدراء العمل السياسي هي كلها مظاهر لنقص في التربية وغياب للرؤية, وانعكاس لانغلاق الأجيال علي همومها الذاتية بعد أن أصبحت طموحات الفرد تستنزف كل جهده, وتستغرق كل وقته, وذلك أمر مشروع لا نجادل فيه, ولكننا نود ان نضيف اليه اهتماما بما يجري حولنا, وما يؤثر في مستقبل الوطن لأن الارتباط بين الخاص والعام هو نتيجة حتمية في النهاية, الم تتأثر اجيالنا بنكسة1967 ؟ ألم يتأثر شبابنا في السنوات الأخيرة بسياسة الإصلاح الاقتصادي والفرص الجديدة والمشروعات الكبري؟
ثالثا: إن ربط العمل الشبابي بمفردات العصر وحقائق الحياة الجديدة هو أمور لازمة, فنحن نقف في مواجهة نوعية جديدة من الإنسان المصري الذي أصبح الكمبيوتر أداته اليومية, وتحول الإنترنت إلي تسليته الدائمة, وهنا يجب أن أقرر في سعادة أن الأجيال الجديدة تتفوق بقربها من تكنولوجيا العصر, وتتميز بانكماش الهوة بينها وبين مصادر التقدم مع ارتباطها بالعلوم الجديدة والأفكار الحديثة, ولعل ذلك يعوض شيئا من ضعف ثقافتهم السياسية ويبرر نقص اهتمامهم بالحياة العامة, لذلك فإن الطريق لمخاطبة هذه الأجيال الصاعدة يمر من خلال التعامل مع معطيات الحياة القريبة منهم, وأدوات العصر المحببة لديهم مع الإدراك الكامل لطموحاتهم الفردية وتطلعاتهم الشخصية.
إنني أردت بهذه السطور أن تكون إسهاما في الجدل الذي يثور بين الحين والآخر حول أسلوب تربية الشباب وتنظيم اوضاعه وتوعية جموعه, وهنا أقول ان ذلك مجرد اجتهاد شخصي دعتني اليه تلك الإجابة التي تتسم بروح ليبرالية والتي رد بها الرئيس علي تساؤل واحد من ابنائه عبر فيه عن هموم الشباب الذي يمثل اكثر من ثلثي الحاضر فضلا عن كل المستقبل بما يستوجب ان يكون شريكا كاملا في صنعه, وحريصا دائما علي تقدمه, وفي ظني ان اية محاولة لتسييس الشباب يجب ان تنبع من الظروف القائمة, والا تكون صورة مكررة من تجربة سابقة لأن الشباب قد تغير, والأجيال الجديدة لها خصائص مغايرة وتعيش في بيئة دولية وإقليمية ومحلية تبدو مختلفة, وسوف تظل مهمة جيلنا هي النصيحة المخلصة, والتوجيه الصادق, والكلمة الشريفة, ويبقي علي شبابنا أن يختار طريقه, وأن يحدد ملامح مستقبله بإرادته وحده دون وصاية عليه, أو قمع لتجربته, أو استغلال لطاقته.
جريدة الأهرام
http://www.ahram.org.eg/Archive/1999/2/23/WRIT2.HTM