شاركت لعشر سنوات بلقاء فكري سنوي في معرض القاهرة الدولي للكتاب(87-1996) وكنت أشعر ان المناخ الفكري والجو الثقافي الذي يوفره ذلك المهرجان السنوي لمحدثيه ورواده علي السواء هو أمر يدعو الي الارتياح والرضا خصوصا وأن مناخ الحرية المتاح في الحديث والحوار والمناقشة كان يمثل قدرا لابأس به في عمومه بمنطق أن مالا يدرك كله لايترك كله, إلي أن تلقيت دعوة مفاجئة من منتدي دافوس بسويسرا في مطلع عام1995 للحديث أمام الجلسة الرئيسية للمنتدي حول موضوع( الدين والسياسة في الشرق الأوسط) وذلك بترشيح من الاستاذ الفرنسي المعروف كيبيل والذي كان يعرف عني اهتمامي بهذا الموضوع الذي كرست له عددا من المحاضرات عندما كنت أقوم بالتدريس لطلاب الدراسات العليا بالجامعة الامريكية بالقاهرة, وكان المنتدي كريما معي للغاية باستضافة كاملة للسفر والإقامة لي ولزوجتي, ثم كان حديثي في جلسة افتتاحية بالقاعة الرئيسية لمقر المنتدي حيث قدمني في بدايتها وأدار الحوار معي السياسي ريمون بار رئيس وزراء فرنسا الأسبق, وكان جمهور الحاضرين خليطا من مختلف الأجناس والأفكار والثقافات ومزيحا من ساسة ودبلوماسيين واعلاميين ورجال أعمال, وفي جلسة ثانية جرت مناظرة بيني وبين نائب وزير خارجيةايران في قاعة محدودة الحضور حول ذات الموضوع.
وأنا أقول ذلك لكي اعترف بداية بأنني كنت أدرك مقدما أن وراء فكرة المنتدي الاقتصادي بدافوس أهدافا سياسية محددة قد لاتبرأ من خدمة غايات لاتخفي علي أحد, بل إن أصحاب المنتدي لم يخفوا ذلك خصوصا بعد أن امتد دورهم الي ترتيب المؤتمرات الاقتصادية الكبري في الشرق الأوسط في محاولة للتطبيع بين اسرائيل وجيرانها العرب من خلال محاولة ذكية للمزح بين السياسة ورجال الأعمال, حيث أن هناك طرحا مستحدثا يري أن النظم السياسية التي يحميها رأس المال الخاص قد تكون أطول عمرا وأكثر استقرارا بمفهوم جديد يري أن أصحاب المصلحة في نظام معين هم الذين يدافعون عن بقائه ويعملون لاستقراره.
ولا شك أن شيئا من ذلك قد حدث في عدد من الدول الآسيوية والأفريقية في السنوات الأخيرة بظهور طبقة رجال أعمال جدد ترتبط مصالحهم بالأنظمة السياسية القائمة في بلادهم, وأعود هنا مرة أخري الي معرض القاهرة الدولي للكتاب الذي مضي علي بدايته أكثر من ثلاثين عاما وتطور مفهوم فكرته في السنوات الأخيرة لكي يضيف النشاط الثقافي الحي الي حركة النشر الصماء التي كانت تقف عند حدود الشراء والاقتناء.
وقد أغراني بالربط بين معرض الكتاب ومنتدي دافوس- إلي جانب خوض التجربة الشخصية لي معهما- أن انعقادهما هذا العام يأتي متواكبا من حيث التوقيت زمانا رغم الاختلاف مكانا, لذلك ارجو أن يفسح لي القائمون علي أمر هذا المعرض وفي مقدمتهم الصديق رئيس الهيئة المصرية العامة للكتاب صدورهم لكي أبدي- من بعيد- عددا من الملاحظات حول معرض القاهرة الدولي للكتاب وتطور فلسفته:
أولا: إن اللقاءات الفكرية قد خرجت عن إطارها الصحيح,فالأصل في اللقاء الفكري أن المتحدث فيه يطرح قضية بذاتها, ويضع من المقدمات ما يفتح الحوار حولها, وبذلك فإن لقاءات المسئولين حول مشكلات مواقعهم المختلفة لا تقع تحت مفهوم اللقاء الفكري بل هي أقرب الي اللقاء الجماهيري الذي يبدو عنوانا أكثر سلامة وأقرب دلالة لما يجري في تلك اللقاءات خصوصا وأننا نسرف كثيرا في استخدام الصفات الفكرية والخصائص الابداعية التي نطلقها بغير ضابط ولارابط ونخلعها بسخاء علي أمور لاتتصل بها بشكل تضيع معه المعاني العميقة للفكر الحقيقي والابداع الرفيع, ولكن إذا جاء أحد الوزراء أو كبار المسئولين الي معرض القاهرة حاملا فكرة معينة أو طرحا محددا يتسم بالجدة والشمول وكان لديه من رحابة الصدر الحقيقية ما يجعله قادرا علي الحوار الصحيح خارج اطار وظيفته ودون التقيد بهالة موقعه فلا بأس في هذه الحالة أن نطلق علي حديثه وحواره عنوان اللقاء الفكري, ونحن نريد بذلك أن نضع الأمور في حجمها الحقيقي وأن نجعل المسميات متطابقة مع الدلالات الصحيحة للموضوعات المختلفة.
ثانيا: نشعر أحيانا بأن زحام النشاط الثقافي من لقاء فكري الي عرض كتاب الي حوار علي المقهي الثقافي إلي غير ذلك من أنواع الأنشطة المطلوبة, نلاحظ أنها تخلق بالضرورة نوعا من الزحام من حيث المكان والتوقيت, بل إنني أخشي أن نسقط- والأمر كذلك- أسري للرغبة المحمومة في رصد الكم علي حساب الرؤية السليمة لمفهوم الكيف, لذلك فإنه يتعين علينا أن نفكر بشكل مختلف يسمح باختزال هذه الأنشطة في نوع من التركيز الموضوعي الذي يتجنب التكرار ولا يجعل رواد المعرض موزعي الجهود مشتتي الانتباه.
ثالثا: إنني اتساءل أحيانا هل يتم الجانب الثقافي للمعرض علي حساب حركة النشر ومعدلات البيع في معرض الكتاب ذاته ؟
فالتثقيف هدف رفيع وغاية نعتزبها ولكن معرض الكتاب له أهدافه التجارية المتصلة بحركة النشر والترويج للكتاب والمساعدة في غرس عادة القراءة لدي الأجيال الجديدة وهي كلها أمور ترتبط بفكرة المعرض ومبرر قيامه, كماان النشاط الثقافي يمكن أن يجد له أماكن مختلفة ومناسبات أخري, أما صناعة النشر وسلعة الكتاب فعيدهما الوحيد هو ذلك المهرجان السنوي للمعرض الدولي للكتاب, ولقد سمعت من بعض الناشرين شيئا يدور حول هذا المعني, والأفضل في ظني أن يكون هناك نوع من التوازن في المعرض السنوي للكتاب بين الوظيفتين التجارية الاعلانية من جانب والثقافية الفكرية من جانب آخر.
رابعا: إن التركيز علي قضية واحدة سنويا واعتبارها بمثابة الطرح السيد في كل أنشطة المعرض هو أمر مطلوب, وأعترف أن رئيس الهيئة المصرية العامة للكتاب قد اتجه هذا النحو في عدد من السنوات واختار هذا العام شعارا براقا يتصل بالتهيؤ للمستقبل, كما مازلت أذكر الاجتماعات التحضيرية التي كانت تسبق المعرض سنويا ويتداول فيها المسئولون عنه الرأي مع عدد من المفكرين والمثقفين وكان لي شرف المشاركة فيها في محاولة لتبادل المشورة وتزاوج الخبرة واستخراج الفكر المشترك, وكان اختيار قضية واحدة تسيطر علي انشطة المعرض الثقافية كل سنة بمثابة أمر يلقي قبولا عاما بين الجميع علي اعتبار أن ذلك يسمح بالتركيز علي موضوع معين ويجعل الخروج بنتائج علمية وتطبيقية أمرا ممكنا.
خامسا: إن توقيت معرض القاهرة الدولي للكتاب سنويا والذي يتذبذب كل عام بين عدد من المؤشرات والمحاذير منها شهر رمضان المبارك وعيد الفطر وإجازة نصف العام الدراسي للمدارس والجامعات, إن كل هذه العوامل التي تؤدي الي تأرجح توقيت المعرض سنويا هي أمور تنال قدرا من قيمته الدولية, إذ أننا نفضل أن يكون له موعد سنوي ثابت لايخلفه وأن يكون هذا الموعد هو المتغير المستقل الذي تتبعه المتغيرات الأخري, فثبات الموعد سنويا أمام دور النشر العربية والأجنبية والمهتمين عموما بصناعة الكتاب هو أمر يعطي المعرض المصري درجة أعلي من المصداقية والمكانة.
سادسا: إن نوعية جمهور المعرض وطبيعة رواده هي قضية أخري ربما ترتبط بالنقطة السابقة, فالأجيال الجديدة من الشباب المتعطش للمعرفة المفتقد للحوار هي التي تزحف من الصباح الباكر موزعة علي فعاليات المعرض المختلفة, بل إن منهم من لايترك مقعده بطول اليوم كله متابعة للأنشطة المتعددة في المكان الواحد, والي هؤلاء من ابناء مصر وأصحاب المستقبل الواعد يجب أن تتجه الجهود وأن تنصرف الاهتمامات, وما أكثر ما رأيت في عيون ذلك الشباب من رغبة ملحة في المعرفة ونفوس متعطشة للحوار وقلوب مفتوحة للمستقبل, لذلك فإنه يتعين علينا أن نسلم هنا بأن معرض القاهرة الدولي للكتاب قد ارتبط بالأجيال الجديدة وفتح أبوابه لها وترك تأثيره فيها.
سابعا: إن توسيع دائرة المشاركة العربية في معرض القاهرة الدولي للكتاب هو أمر لازم لأنه يعني أن عكاظ المصري سوف يظل بؤرة الاهتمام وطليعة المناسبات الثقافية العربية, ولنتذكر هنا أن صناعة النشر- بالانتعاش أو الانكماش- هي ترمومتر الحركة الثقافية والنشاط الفكري في بلد معين, وقد تعرضت مصر في السنوات الأخيرة لمنافسات عديدة أصبحت تفرض عليها درجة أعلي من الحماس لما تصدره من فكر وابداع مع ضرورة التركيز في بضائعها الثقافية علي الصعيد العربي خصوصا بعد أن استعاد لبنان الشقيق عافيته ودخلت دول المغرب العربي ميدان الثقافة العربية بشكل مكثف فضلا عن سباق خليجي في هذا الميدان يبدو مدعوما بالامكانات المادية قبل غيرها.
ثامنا: إن الخروج عن الروتين السنوي للمعرض باعطاء دولة عربية معينة أو لغة عالمية محددة ميزة سنوية تتغير من عام الي عام بشكل يجعل من معرض القاهرة الدولي للكتاب مضيفا ذكيا يستوعب الغير ويمتص روح المنافسة لدي الآخر, ان مثل هذا الخروج عن الروتين السنوي سوف يخلع علي هذه المناسبة السنوية الهامة روح التجدد وصفة التنوع ويكسبه شعبية عربية ودولية أكبر.
تاسعا: إن اللجوء الي عدد من التيسيرات لرواد المعرض هو أمر مطلوب سواء بتحديد أيام مختلفة لشرائح دراسية متنوعة أو باللجوء إلي تحديد أيام لفئات يذاتهها وكلها أمور يمكن أن توجد بدورها نوعا من تعددية النشاط, وتحدث درجة من التلوين الثقافي الذي يعطي المعرض السنوي خصائص أكثر شمولا ويسمح له بتغطية مساحة أكبر علي خريطة الحركة الثقافية للوطن كله.
عاشرا: إن تسهيلات ارتياد المعرض بتنظيم أكثر لعمليات الدخول والخروج والتأمين تبدو للوهلة الأولي أمورا اجرائية بسيطة بينما هي ذات تأثير كبير في إنجاح المعرض وتنظيم الحركة فيه, وقد يحتاج الأمر هنا الي اختيار اعداد من الشباب من مختلف الأعمار الذين يمكن أن نطلق عليهم( أصدقاء المعرض) ويناط بهم المشاركة الفعالة في ترتيب وتنظيم وتيسير النشاط اليومي لهذا الحدث السنوي الكبير.
فإذا كانت هذه هي ملاحظات عامة حول المعرض السنوي الدولي للكتاب في القاهرة فإنه يتعين علينا أن نجري قياسا بينه وبين معرض دولي آخر مثل معرض فرانكفورت أو معرض عربي مثل معرض الشارقة لكي نشعر بالتميز الذي يلحق بمعرض القاهرة ويعطيه- برغم كل الملاحظات والتعليقات- درجة من الاختلاف والتباين, ولعلي أقترح هنا علي السيد رئيس الهيئة والقائمين علي المعرض استضافة شخصيةفكرية دولية وأخري عربية كل عام تكون هي ضيف الشرف السنوي علي المستويين الدولي والاقليمي بحيث يكون هناك نوع من التركيز علي ماكتبوا والاهتمام بما قالوا, مع امكانية التعريف بهم وتبادل الحوار معهم, ولاشك أن التقليد الحميد الذي استنه الرئيس حسني مبارك بالحرص علي افتتاح أعمال المعرض سنويا واجرائه حوارا مفتوحا مع نخبة من المثقفين هو أمر يعطي هذه المناسبة وزنا أمام الرأي العام, ويضيف اليها اهتماما رسميا يحتاجه- علي مايبدو- كل عمل نريد له الاستمرار والنجاح في بلادنا, ولعلي أكون منصفا إذا سلمت بأن المقارنة بين معرض القاهرة للكتاب والمنتدي الاقتصادي في دافوس هي مقارنة ظالمة, فالفوارق بين المناسبتين قد تكون أكثر من أسباب التشابه بينهما من حيث الهدف المطلوب وطبيعة الظروف المحيطة والامكانات المتاحة, ولكنني قصدت فقط الاشارة الي التوقيت المشترك بينهما هذا العام وحديث رئيس مصر أمامهما خلال نفس الأسبوع,فضلا عن أن كلا من المناسبتين هي تجمع لساسة ومثقفين يتحلقون في دوائر للحوار من أجل هدف مختلف في الحالتين.
كما أغراني بالإشارة اليهما معا تطلعي الي أن يحقق معرض القاهرة الدولي للكتاب وهدفه ثقافي فكري بالدرجة الأولي, ماتحقق لمنتدي دافوس وهدفه سياسي اقتصادي بالدرجة الأولي أيضا, وقد يكون من المناسب هنا أن أقرر أن معرض القاهرة الدولي للكتاب برغم أية ملاحظات حوله هو إضافة ثرية لحياتنا الثقافية والفكرية, كما أنه لايخلو من قيمة سياسية واجتماعية بقدر ما يتيح من حرية في الحوار, وما يوفر من مساحة ديموقراطية عند مناقشة القضايا القومية والمسائل الوطنية,كما أن الجو الذي يسود أيام المعرض والروح التي تسيطر علي شبابنا أثناء انعقاده هي كلها اضافات لمناخ الحياة العامة في مصر بانعكاساتها علي المستوي العربي كله, ولابخس القائمين علي معرض القاهرة الدولي للكتاب حقهم أن يكون عملهم مثار اهتمام وموضع مقارنة ومحل دراسة.. كما أنه لايجب أن يغيب عن وعينا أن مصر الشقيقة الكبري كانت مستهدفة دائما بالانبهار عربيا بينما هي الآن مستهدفة أحيانا بالنقد عربيا ايضا, وذلك يضاعف من مسئوليتنا, ويصرف جزءا أكبر من اهتمامنا الي السلعة الثقافية المصرية خصوصا وأن الكتاب المصري هو مبعوث الكنانة الدائم الي أرجاء أمته العربية مهما تغيرت الظروف أو تحولت المواقف أو تبدلت القوي.
تنويه: فهم بعض القراء من سياق مقالي السابق(الأمير والأسطورة) الذي جاء مكملا لسلسلة مقالات عن شركاء عيد الميلاد: دانتي ونهرو وطه حسين وبطرس غالي والملك حسين والأمير تشارلز أنني اشترك مع الأخير في يوم الميلاد وسنته, بينما واقع الأمير أنه شريك اليوم والشهر فقط بينما أكبره بأربعة أعوام إذ أنني من مواليد14 نوفمبر1944.
جريدة الأهرام
http://www.ahram.org.eg/Archive/1999/2/9/WRIT1.HTM