كنت ممن يتحفظون علي استخدام مصطلح عالم جديد مفضلا أن نسميه بالعالم المختلف, وكانت حجتي في ذلك دائما أن الهيكل التنظيمي والإطار القانوني للعلاقات الدولية لم يتغيرا, فالأمم المتحدة قائمة, ومجلس الأمن لايزال بؤرة السلطة فيها, ومحكمة العدل الدولية تمارس دورها, والوكالات المتخصصة مستمرة في تحقيق أهدافها, كما أن المنظمات الإقليمية لم تندثر بعد رغم المسميات الجديدة من نوع العالمية والكونية والعولمة ولكنني اعترف اليوم انني بدأت اراجع تلك القناعة لكي أقول انه يبدو لي اننا بالفعل بصدد عالم جديد اكتملت ملامحه او تكاد, حيث أثبتت التطورات السريعة عبر السنوات القليلة الماضية ان المسألة لم تكن مجرد انتهاء الحرب الباردة او اختفاء الاتحاد السوفيتي كقوة عظمي تقود منظومة عقائدية لدول شرق أوروبا, كما أن الأمر لم يقف عند حدث رمزي هو تحطيم سور برلين وإعلان عودة الدولة الألمانية الموحدة, بل تجاوز ذلك كله لكي يطرح امامنا شكلا جديدا للعلاقات الدولية, ويفرض علي الذين كانوا يتحفظون علي تعبير النظام العالمي الجديد الاعتراف به اخيرا بعد ان اصبح واقعا لا يمكن انكاره, بل يجب الاعتراف به, والسعي لدراسة متعمقة لأبعاده, برغم ان المؤسسات العالمية باقية, والمنظمات الدولية قائمة ولكن الدنيا تغيرت, و القوي تبدلت, والمواقف تحولت.. ويمكن أن نستعرض بعض الملامح التي تتكون منها صورة عالم اليوم في عدد من النقاط الجوهرية وأهمها:
أولا: إذا كانت الديمقراطية وسيلة لتنظيم الحياة السياسية للدولة, فإنها تبدو أيضا مبدأ يجب التسليم به في العلاقات بين الدول هي الأخري, ولقد توهمنا لسنوات طويلة أن التسليم بمبدأ( صوت واحد لكل دولة) مهما كان حجمها هو رمز لديمقراطية العلاقات الدولية, واعتبرنا ان طبيعة اجراءات العمل في الجمعية العامة للأمم المتحدة تجعلها بمثابة برلمان دولي تستطيع فيه الشعوب المقهورة أن تنفس عن مشاعرها التي لا تتحقق لها من خلال مجلس الأمن الذي يبدو حلفا للأقوياء ومحصلة لمراكز القوي الدولية بعد الحرب العالمية الثانية, والأمر في ظني أن ديمقراطية العلاقات الدولية تمر حاليا بأسوأ مراحلها في نصف القرن الأخير, حيث تبدو غطرسة القوة أمرا مقبولا كما أصبح الحوار مفقودا, وسيطر مفهوم المنولوج علي العلاقات الدولية بحيث تتحدد المواقف من طرف واحد في وقت تختفي فيه ارادة الشعوب وتتجمد آمالها وتتواري طموحاتها.
ثانيا: إن تفرد قوة دولية واحدة بالهيمنة في عالم اليوم وانفرادها بعملية اعادة ترتيب الأوضاع وفقا لمصالحها وأهداف حلفائها, إن هذا الأمر قد أدي إلي خلل كبير في العلاقات الدولية نتج عنه انعدام التوازن الذي كان يسمح لعدة عقود مضت بأن تكون هناك مراجعة للمواقف وحسابات علوية تدعو القوي الأعظم بأن تفكر مرتين قبل اتخاذ قرار ضخم من نوع قصف عاصمة دولة, أو انتهاك سيادة كيان سياسي مستقل, حتي أصبح الأمر بالنسبة للقوة المسيطرة علي عالم اليوم, كما لو ان القرار الخارجي لم يعد يختلف عن القرار الداخلي في شئ, وكأن وزيرة خارجية الولايات المتحدة الأمريكية هي وزيرة داخلية العالم بأسره!.
ثالثا: إن مفهوم سيادة الدولة الذي عشنا نردده لسنوات طويلة, والذي أفني شراح القانون الدولي أعمارهم في تأكيده وملأوا مؤلفاتهم بالترويج له, إن هذا المفهوم يبدو قلقا للغاية في هذه المرحلة من تاريخ العلاقات الدولية المعاصرة, فقد كادن التدخل في شئون الغير يتحول الي حق تحميه نظريات جديدة تقوم علي التشدق بحقوق الإنسان, أو الدفاع عن الديمقراطية, أو صيانة البيئة, أو حتي القيام بعمل وقائي لحماية الجيران, وهذه كلها أطروحات جديدة تبدو امتدادا طبيعيا للفكر المستفز للظاهرة الاستعمارية في أوج مراحلها, ولكن الخطورة الحقيقية انها تطل علينا اليوم وسط غلالة من المبادئ والقيم, وفي ظل إطار قانوني يجادل به أصحابه دفاعا عن الباطل وقهرا لإرادة الآخر, وانتهاكا لسيادته.
رابعا: إن مسألة حقوق الإنسان هي الأخري تبدو الآن أقرب ما تكون إلي الحق الذي يراد به باطل في ظل ازدواج المعايير الدولية, وسياسة الكيل بمكيالين, فحقوق الإنسان الفلسطيني لا تتساوي أبدا مع حقوق الإنسان الإسرائيلي, وحقوق الإنسان الأمريكي تبدو في النهاية فوق الجميع, ولعل هذا الاهتزاز في نسق القيم الدولية, يمثل في مفهومنا أخطر ما يمكن أن يتهدد مستقبل البشرية, فقد كنا نتصور أن الإنسان قد قطع شوطا كبيرا في الحفاظ علي حد ادني لحقوقه وهو يحتفل بمرور خمسين عاما علي الإعلان العالمي لحقوق الإنسان, ولكن الصورة تبدو غير ذلك تماما, فقد جرت عملية تشويه مغلوطة لفلسفة حقوق الإنسان, كما جرت عملية تجريد متعمدة للإطار السياسي والاجتماعي لها.
خامسا: إن استسلام قوي عملاقة في حجم الصين والهند وروسيا الاتحادية وقبلها الاتحاد الأوروبي ـ ككيان واحد ـ لما يجري في عالم اليوم هو شواهد تضاعف القلق لدي انسان العصر.فبرغم المحاولات التي تبدو ارهاصاتها علي استحياء لإيجاد نوع من التنسيق بين الكيانات الكبري في مواجهة الدور الأمريكي المنفرد, افإن واقع الأمر يشير الي غير ذلك, فالتناقض القومي بين هذه القوي مازال يمثل صراعا دفينا لايمكن تجاوزه, كما أن قوة كبري مثل الصين لازالت تقنع بدور دولي محدود لايتناسب مع حجمها السكاني وثقلها السياسي, ودول الاتحاد الأوروبي تبدو أقرب الي دور المراقب في العلاقات الدولية الحالية منها الي دور المراقب الشريك الفاعل في القرار الدولي المعاصر, أما روسيا الاتحادية فان مشكلاتها الاقتصادية تجعلها عبئا علي الغرب وليست ندا له, واليابان قوة اقتصادية مقلمة الأظافر تشعر بتبعية خاصة للولايات المتحدة الأمريكية, أما الهند فهي لاتزال حجما كبيرا دون أن تكون لديها نوعية تتناسب معه, والنمور الآسيوية تحولت الي قطط, والقوي اللاتينية غير ناضجة بحكم التاريخ لممارسة دور بارز, وغير مؤهلة بحكم الجغرافيا للتأثير في قلب العالم, وافريقيا تعاني أكثر من غيرها مشكلات الصراعات العرقية, والصدامات القبلية, ومراهقة النظم السياسية, فضلا عن التصحر والمجاعة ونقص الموارد وشيوع الفساد السياسي والمالي وسوء استخدام السلطة والثروة.
سادسا: ان أبرز مايقلقنا فيما نشهده من أحداث العصر هو أنه تجري عملية استخدام فاضحة للمنظمات الدولية وفي مقدمتها الأمم المتحدة وتوظيفها في خدمة أهداف القوة المسيطرة عليها حتي أن الأمم المتحدة تكاد تصبح منظمة أمريكية, تضربواشنطن بقفازها المدنيين والأبرياء في مواقع كثيرة من خريطة عالم اليوم, وأحيانا تضع القفاز جانبا وتتولي التأديب مباشرة دون الحاجة الي علم الأمم المتحدة باعتبارها قد أصبحت جزءا لايتجزأ من أدوات سياستها الخارجية.
سابعا: ان دور الاعلام المعاصر, وتنامي وسائل الاتصال في ظل ثورة المعلومات, قد أدت كلها هي الأخري الي تجسيد حجم المعاناة, وتوصيل الحقيقة مباشرة الي كل بيت في أركان الدنيا الأربعة, فنحن بحق في عصر الحروب التليفزيونية, حيث نشاهد القصف لحظة وقوعه, وبذلك أصبح العالم في معظمه مراقبا ـ في مقاعد المتفرجين ـ لفصول مسرحية حزينة أقرب الي المأساة منها الي الملهاة بكل أبعادها الانسانية ومعاناتها البشرية.
فاذا كانت هذه هي الملامح الرئيسية والخطوط العريضة لما أصبحنا نقبل بتسميته(العالم الجديد) فانه يتعين علينا أن نتساءل أين نحن من هذا الذي يجري في سنوات الوداع لألفية كاملة من تاريخ الجنس البشري خصوصا أننا نستقبل القرن الحادي والعشرين وسط عالم أكثر اضطرابا من ذلك العالم الذي استقبلنا به القرن العشرين منذ مائة عام؟..انني أسمح لنفسي هنا بأن أقدم اجتهادا ينطلق من عناصر ثلاثة:
1 ـ ان سياسة الحصار التي ابتدعتها القوي المؤثرة في عالم اليوم تكاد تطوق العالمين العربي والاسلامي دون غيرهما, ورغم أني أتحفظ كثيرا علي التسليم المطلق بالمفهوم التآمري للتاريخ, الا أنني أسقط أحيانا فريسة احساس عميق بأن هناك محاولة لضرب كل امتدادات الحضارة العربية والاسلامية, ويكفي أن نتأمل ذلك الشريط الطويل للأحداث الدامية في كوسوفاو والبوسنة وأفغانستان والصومال والجزائر والأرض الفلسطينية المحتلة وغيرها من مناطق الاضطراب والمعاناة ثم ذلك الحصار المطبق علي العراق وليبيا والسودان,لكي أقول أننا علي مايبدو مستهدفون بالدرجة الأولي لأسباب عنصرية لاتخلو من رواسب تاريخية, وقد يقول قائل وكيف تغفل أخطاء بعض الحكام الذين قادوا دولهم الي الدائرة الشريرة للحصار؟ وهنا أقول ان توزيع أدوار بعض أصحاب القرار في النظم المعاصرة في العالمين العربي والاسلامي هو الآخر فصللا من فصول المؤامرة الكبري, ومورد مطلوب لنزيف دم لايتوقف, ومصدا لمتاعب لاتنتهي.
2 ـ ان هناك شعوبا تبدو عصية بطبيعتها, وتحتاج الي عملية ترويض لايمكن التقليل من تأثيرها, ولعل الشعب العراقي هو نموذج من هذا, وربما كانت ايران متهمة بشيء من ذلك هي الأخري, ولابد من تأديب الشعوب التي لاتبدو طيعة في التوجيه, أو سهلة في الخضوع للأقوي, والاستهداف نظرية تقليدية في السياسة الدولية والاقليمية, ولقد عانيناها في مصر علي امتداد العصور, فبلدنا مستهدف دائما, فهو يثشير الأطماع ويغري بالضغوط, لأننا مركز ثقل المنطقة, أو كما يقولون اأنه اذا عطست مصر أصيب الشرق الأوسط كله بالانفلونزا!
3 ـ لابد أن نعترف أن كل التداعيات التي نعاني اليوم لم تولد في لحظة ولم تبدأ من فراغ, فغطرسة القوة ظاهرة تاريخية عرفتها كل الامبراطوريات الكبري, وعانت الأمم والشعوب علي مر التاريخ سواء أكان ذلك في عصر الكشوف الجغرافية أم الظاهرة الاستعمارية خصوصا وأن حركة التحرر القومي قد خمد لهيبها, كما ان صحوة العالم الثالث قد دخلت في مرحلة بيات شتوي لاتبدو له نهاية في المستقبل القريب.
انني أريد أن أقول وبصراحة شديدة ان مظاهرات الشارع العربي احتجاجا علي قصف عاصمة عربية هي مؤشر لحالة الانفعال العاطفي التي تحتاج الي أن تصبح صحوة عقلية أكثر منها ظاهرة صوتية, فنحن العرب ـ حكاما وشعوبا ـ مطالبون اليوم بمراجعة أمينة لماضينا القريب, وحاضرنا القائم, اذا كنا نفكر بجدية في مستقبل أفضل, ولست من دعاة التناطح مع الحائط, كما أنني لست من المتحمسين لشطحات الانتحار القومي, ولكنني أطالب بأسلوب مختلف في التفكير يتناسب مع معطيات عالم جديد ويسمي الأشياء بمسمياتها ويعطي الأمور حقها من البحث والدراسة, ويوظف أفضل الكفاءات المتاحة في أنسب مواقع الحكم والادارة, ومراكز صنع القرارين الداخلي والخارجي.
كماانني لاأتحمس أيضا في الوقت ذاته للطرح المتشائم الذي يري أن الصورة قاتمة تماما وأن الضوء بعيد جدا, فالأمر مختلف عن ذلك اذا ماقويت العزائم, وصدقت النوايا, وخلصت الجهود, وأنا لاأنكر بالمناسبة أن نهاية1998 قد حملت معها للعرب ثلاثة أنباء ـ علي الأقل ـ تبدو مزعجة الي حد كبير أولها التصعيد في المواجهة بين العراق ومفتشي الأمم المتحدة الذي انتهي بقصف عاصمة العباسيين بأحدث صواريخ العصر وأكثرها دمارا, وثانيها العقبات التي تعترض مسيرة السلام علي نحو أجهضت به اسرائيل الميلاد الحقيقي لاتفاق واي بلانتيشن لتدخل بنا في دوامات الانتخابات الاسرائيلية المبكرة, ثم كان النبأ الثالث هو تدني أسعار البترول لأقل مستوي وصلت اليه في العقود الأخيرة, وأن اللذين يستنزفون العرب لايكتفون بنهب مواردهم في نفقات التسليح وحملات التأاديب, ولكنهم يتجاوزون ذلك الي التحكم في أسعار البترول بشكل يؤثر سلبيا علي اقتصادات الدول المنتجة له وكأنها عقوبة مزدوجة عند المنبع والمصب في وقت واحد.
انني أخرج من هذا السياق كله لكي أقول اأن مثل هذه الأشياء التي تدعو الي القلق والغضب لايجب ألا تجرفنا الي مستنقع اليأس, كما اننا يجب ألا نشعر اننا جزيرة منعزلة عن عالم اليوم بكل ماله وماعليه بل يجب أن نتجه في ثقة وحماس للمشاركة في احداثه والانتقال من مواقع ردود الفعل الي مواقع الفعل ومراكز التأثير, لأننا لسنا حالة مرضية وحيدة في عالم اليوم كما ان الاستسلام لمشاعر الاحباط يؤدي بالأمم والشعوب الي حالة من الانفصام والتخبط وهما أمران لانبدو في حاجة اليهما, بل ان نفحات هذه الأيام الثرية بعطائها الروحي حيث يصوم المسلمون, ويحتفل بعيدهم المسيحيون ويشتركان معا في استقبال عام جديد, يجب أن تعطينا احساسا مختلفا, ودفعة قوية, وصحوة تجدد فينا روح حضارتنا الشامخة وتراث تاريخنا العريق, فالأمم العظيمة لاتصنعها الي الآلام الكبيرة, والأحزان النبيلة, والمعاناة القاسية.
|