في حياة كل إنسان يوم خاص يأتيه في موعده كل عام هو يوم مولده, يتأمل فيه صاحبه ما مضي ويتطلع معه إلي ما هو قادم, وفي الرابع عشر من نوفمبر كانت بداية حياتي, وحين بدأت أعي الدنيا حولي اكتشفت أن بعض الشخصيات المرموقة والأسماء اللامعة ـ الذين لا أشاركهم بالطبع القيمة أو الشهرة ـ يشاركنني يومي الخاص, منهم اثنان ولدا في عام واحد قرب أواخر القرن التاسع عشر وهما الزعيم الهندي جواهر لال نهرو وعميد الأدب العربي الدكتور طه حسين, وثلاثة آخرون ولدوا في القرن العشرين وهم الدكتور بطرس غالي أمين عام الأمم المتحدة السابق والملك حسين عاهل الأردن والأمير تشارلز ولي عهد بريطانيا, ولقد رأيت أن أتناول هذه الشخصيات ـ التي اخترتها من بين مشاهير مواليد ذلك اليوم ـ في مقالات متتالية بحكم المشاركة في عيد الميلاد أولا, ومن موقع اهتمامي بدراسة النفس البشرية ثانيا, فعندما أتيحت لي فرصة الدراسة للدكتوراه في جامعة لندن منذ أكثر من ربع قرن واخترت أيامها دور الأقباط في السياسة المصرية موضوعا لأطروحتي, فإنني قد تعمدت وقتها اللجوء إلي اتخاذ شخصية قبطية مرموقة علي المسرح السياسي المصري في فترة ما بين الثورتين(1919 ـ1952) لكي أجعلها مادة لدراسة حالة من خلال التاريخ السياسي لشخصية مكرم عبيد باشا الزعيم الوفدي وسكرتير عام حزب الأغلبية لسنوات طويلة.
فغرامي بدراسة النفس البشرية يلازمني منذ الصغر, كما أن اهتمامي بدور الفرد في حركة التاريخ يسيطر علي أدوات البحث لدي منذ بداية دراستي الجامعية, وقد كان اختياري لهؤلاء الخمسة المرموقين الذين ذكرتهم من مواليد الرابع عشر من نوفمبر هو امتدادا طبيعيا للهواية البحثية التي أشرت إليها, ومبررا لممارسة نوع من السياحة الفكرية إذ أن دراسة هذه الشخصيات سوف يكون بالضرورة مناسبة للبحث في قضايا أشمل تقترن بهم, ومسائل أكثر عمومية ارتبطت بتاريخهم, فالتعرض لـجواهر لال نهرو سوف يستتبع بالضرورة الحديث عن التجربة الهندية المعاصرة, كما أن تناول شخصية طه حسين سوف يستلزم التعرض للعلاقة بين الأدب والسياسة في تاريخ مصر الحديث, أما تجربة بطرس بطرس غالي فهي جديرة بالاهتمام بسبب انتمائه العائلي, وموقعه الطبقي, ودوره السياسي, وتأثير محصلة ذلك علي دوره في الحياة العامة خلال ربع القرن الأخير.
أما العاهل الأردني فهو يمثل شخصية جديرة بالبحث والتأمل في وقت يواجه فيه محنة المرض بشجاعة بعد أن انتصر قبله علي عشرات المحن علي امتداد حياته السياسية التي تربع فيها علي العرش الهاشمي منذ أكثر من خمسة وأربعين عاما وسط رياح عاصفة وأنواء عاتية ظلت تهب علي الشرق الأوسط علي امتداد النصف الثاني من القرن العشرين.
أما الأمير البريطاني تشارلز فهو يمثل شخصية مثيرة بكل المعايير, فاسمه يقترن بالصعود والهبوط في حياته الخاصة, كما أن اقترانه بالأميرة الراحلة ديانا وتطور العلاقات بينهما قد جعله جزءا من أسطورة معاصرة كادت تحجب عنه احتمال الجلوس علي العرش البريطاني, ولست أنكر أنني أعرف أيضا مناسبات أخري للرابع عشر من نوفمبر فهو اليوم التالي علي عيد الجهاد الذي كان يحتفل به المصريون في الفترة الليبرالية من تاريخنا الحديث, كما أنه أيضا عيد جلوس البابا شنودة الثالث وهو شخصية ظلت مثيرة للجدل سنوات لكنها بقيت دائما موضع احترام المصريين جميعا, كما أن الرابع عشر من نوفمبر هو أيضا يوم مولد خالد الإسلامبولي قاتل الرئيس الراحل أنور السادات بكل ما لحق بذلك الحادث المأساوي من تأويلات وتداعيات.
ولنبدأ الآن مع هذا المقال بالشخصية الأولي حيث نعتمد في ترتيب تلك الشخصيات علي عامل السبق الزمني دون النظر للعوامل الأخري من حيث الثقل التاريخي, أو الوزن السياسي, أو حجم الدور الإنساني, وتكون البداية بزعيم الهند الحديث جواهر لال نهرو, وهو شخصية تستهوي الباحثين وتتوقف أمامه طويلا كل الدراسات المعنية بالشخصيات المرموقة في هذا القرن, فهو يشترك مع عميد الأدب العربي في يوم الميلاد وعامه(1889) وهو عام شهد ميلاد عدد كبير من مشاهير الأدب والفن والسياسة, وهي ملاحظة يشير إليها دائما الأديب المصري الكبير أنيس منصور, وسوف نلاحظ أن اشتراك نهرو وطه حسين في يوم المولد وعامه ليس هو القاسم المشترك الوحيد بينهما, فكلاهما درس في الغرب وعاد إلي بلاده بفكر متجدد ورؤية بعيدة المدي, كما أن كليهما قد أحدث تزاوجا في شخصيته بين التراث القومي والفكر الوافد, وإن كان أولهما قد جعل السياسة الوطنية ميدان حركته بينما كان طريق الثاني هو الأدب العربي بكل أفكاره ومواقفه ومعاركه.
والحديث عن جواهر لال نهرو ـ بمناسبة عيد ميلاده ـ هو حديث عن التجربة الهندية الضخمة التي أتاحت لي الظروف معايشة جزء منها علي امتداد سنوات أربع قضيتها في العمل الدبلوماسي بالعاصمة نيودلهي منذ قرابة عشرين عاما أدركت معها أن التقدم يمكن أن يحدث في إطار تجربة ذاتية ولا يكون بالضرورة استيرادا غربيا, فالتجربة الهندية بكل نتائجها الباهرة هي بنت التراث الثقافي والتقاليد الفكرية في شبه القارة الهندية, وإذا كان صاحب الروح العظيمة المهاتما غاندي هو الفيلسوف السياسي وابن الشرق الذي جاء لينشر مبادئه وأفكاره عن المقاومة السلبية, واللاعنف, والحذر من الغرب, والاعتماد علي الذات, فإن ساعده الأيمن جواهر لال نهرو يمثل هو الآخر الوجه المعاصر للهند الحديثة, فهو ينتسب إلي أعلي الدرجات في السلم الطبقي الهندي, إذ ينتمي إلي البراهمة ويعد تعبيرا عن الأرستقراطية الهندية العريقة, فوالده هو موتيلال نهرو شريك قديم في الحركة الوطنية الهندية, واسم مرموق علي ساحة الحياة السياسية منذ بدايات هذا القرن.. ويمكن في هذه المناسبة أن نوجز الملامح المتميزة في شخصية الزعيم الهندي الراحل جواهر لال نهرو من خلال عدد من الملاحظات التالية:
الأولي: إن التكوين الفكري والتركيبة الثقافية لـنهرو هي مزيج من تراث الهند وحضارة الغرب, فقد أكمل تعليمه في أعرق الجامعات البريطانية ونال إجازته الدراسية بتفوق وعاد إلي بلاده ليوظف إمكاناته الممتازة في خدمة الحركة الوطنية الهندية بزعامة العظيم غاندي, ولعل القيمة الحقيقية لشخصية نهرو أنها كانت سبيكة من الأصالة والمعاصرة وخليطا من الثابت والمتجدد, ومزيجا من روح الشرق وتقدم الغرب, لذلك كان فهم نهرو للسياسة العالمية والعلاقات الدولية أمرا مشهودا له علي امتداد حياته السياسية, سواء كان في موقع السلطة أو قبل ذلك, لذلك لم يكن غريبا عليه أن يدرك أهمية التخطيط القومي, ودور الصناعة الحديثة, وضرورة الديمقراطية في حياة الهند المعاصرة.
الثانية: لقد تميزت علاقة نهرو ـ وعائلته التي حكمت من بعده ـ بقدر كبير من الاستيعاب الواعي للمسائل الطائفية, والفهم العميق لطبيعة المشكلات الناجمة عن اختلاف الثقافات وتعدد الديانات داخل الدولة الهندية, ونهرو مدين في ذلك لحقيقة تاريخية مؤداها أنه قد عاش جزءا كبيرا من سنوات عمره في شمال شبه القارة داخل كشمير الهندية رغم أنها ليست موطن عائلته الأصلي ـ وهي التي تتميز بأغلبية مسلمة, جعلت علاقته, ووابنته أنديرا من بعده وحفيده راجيف أيضا, يشعرون دائما بأهمية دور الإسلام في شبه القارة الهندية باعتباره مكونا أساسيا في شخصية الهند الحضارية, بالإضافة إلي أنه قد جري استخدام الإسلام سياسيا غداة الاستقلال في عملية التقسيم وظهور دولة باكستان, لذلك لم يكن غريبا أن تقف الأقلية المسلمة, التي يزيد تعدادها داخل الهند علي المائة مليون, إلي جانب حزب المؤتمر وريث الفلسفة الغاندية الذي قاده نهرو وعائلته لسنوات طويلة, وإذا كان غاندي لقد لقي مصرعه بطلقات من متطرف هندوسي فإن أنديرا غاندي ـ حاملة الاسم دون صلة القربي ـ قد لقيت مصرعها هي الأخري بطلقات من حارسها المتطرف الذي ينتمي لطائفة السيخ, كذلك فإن ابنها راجيف حفيد نهرو قد رحل عن عالمنا بحادث تفجير مدبر من متطرفين ينتمون إلي طائفة التاميل بينما كان نهرو هو الوحيد الذي انتهت حياته بصورة طبيعية بعد رحلة عمر حافلة.
الثالثة: إن نهرو ـ ابن الأرستقراطية الهندية ـ قد عرف أساليب الكفاح الشاق والنضال الطويل من خلال رفقة المهاتما بكل ما مرت به من مصاعب وما عرفته من تحديات, فقد قضي نهرو سنوات بالسجن الذي بعث منه برسائله الشهيرة لزوجته كمالا وهي مقطوعات رائعة في الأدب الإنساني, ومعزوفات راقية في الحس الوطني, واستطاع دائما أن يحتفظ بدرجة من التوازن النفسي لم يفقدها في أحلك الظروف وأصعب الأوقات, وعايش في سنوات نضاله قيادات متعددة في ظل زعامة فيلسوف الهند غاندي فكانت أسماء مثل السياسي المسلم المستنير مولانا أبو الكلام آزاد, والسياسي الهندوسي المتعصب باتيل وغيرهما من النماذج المتناقضة التي أحاطت بـنهرو وشاركته سنوات القرار للخروج بالهند من أزماته لكي يصبح بعد ذلك دولة اكتفاء ذاتي في الحبوب الغذائية لقرابة مليار نسمة, فضلا عن دخول النادي النووي, واقتحام أبحاث الفضاء, ووضع الأسس المتينة لتكنولوجيا الصناعة الهندية الحديثة, مع الوعي الكامل بخطورة الغزو الثقافي الأجنبي والحذر من السلع الاستهلاكية البراقة أو المضي وراء الظواهر الاجتماعية الغربية المتلاحقة, فقد ظل الهنود يحتفظون بموديل واحد للسيارات يكررون تصنيعه منذ مطلع الخمسينيات, ولم يقعوا فريسة حمي الاستيراد مثلما وقع فيها غيرهم, ويكفي أن نتذكر أن البرنامج الهندي ـ المصري المـشترك لتصنيع طائرة محلية كان يقضي بإنتاج الهنود لجسم الطائرة, بينما كان دور الخبراء المصريين في منتصف الستينيات هو تصنيع محركات الطائرة بكل ما يستلزمه ذلك من قدرات علمية وخبرات فنية.
الرابعة: لقد تميز نهرو بإحساس عميق بمعني الليبرالية الفكرية والسياسية, كما توفر لديه أفق رحب يستوعب تجارب الآخرين, وهو الذي سعي إلي إيجاد جسور ممتدة للتواصل مع الحركات الوطنية المعاصرة, ومازلت أذكر صورة فوتوغرافية له ضمن مجموعته الخاصة في أحد المتاحف الهندية وهو يقف مع سياسي مصري أثناء زيارة له للقاهرة قبل ثورة1952, وقد كتب تحتها لقاء بين الزعيم نهرو والنحاس باشا وعندما دققت في الصورة اكتشفت أن هناك خطأ في ذلك, إذ أن الذي يقف معه كان هو عثمان محرم باشا وزير الأشغال في حكومات الوفد والمعروف بشاربه المتميز, وقد كان علي ما يبدو هو رئيس بعثة الشرف المرافقة للزعيم الهندي أثناء زيارته لمصر آنذاك, وقد قمت بتوجيه انتباه إدارة المتحف يومها إلي ذلك الخطأ غير المقصود ووعدوا بتصحيحه. بل إن أمر العلاقة المصرية ـ الهندية يذهب إلي أبعد من ذلك عندما حدث تقارب بين زعيم حزب المؤتمر المهاتما غاندي وزعيم حزب الوفد سعد زغلول وجرت بينهما اتصالات مبكرة تعكس درجة التعاطف بينهما نتيجة الموقف المشترك تجاه المحتل الواحد لبلديهما.
ولعلي أذكر هنا بأن العلاقة التاريخية التي نشأت بين عبدالناصر ونهرو وتمخفض عنها إسهام دولي مرموق تمثل في ميلاد حركة عدم الانحياز, إنما بدأت بسعي من الثوار بعد1952 لاستلهام تجربة الهند الحديثة وهم يواجهون لأول مرة أعباء الحكم في مصر بعد إبعاد معظم العناصر المدنية عنه, وقد رتب الضباط الأحرار رحلة نيلية مع نهرو يستفيدون فيها من تجربة المعلم القادم من بلاده يحمل علي كاهله عبء أكبر ديمقراطية في العالم, وأغني تجربة إنسانية في الشرق, ولاشك أن الزعيم الهندي قد قال لـعبدالناصر ورفاقه في ذلك اليوم الكثير عن شئون السياسة وقضايا الحكم, وكانت تلك بمثابة انفتاح للتجربة المصرية الوليدة علي العالم, وهو ما تم تدشينه فعليا في باندونج عام1955.
الخامسة: لقد تميز الزعيم الهندي برؤية ثاقبة للأمور, ونظرة شاملة للقضايا, مع فهم عميق للمتغيرات الدولية والإقليمية وتمتع بكاريزما تاريخية مازالت تجثم علي صدر الهند حتي اليوم, وقد تميزت قدرته علي التنبؤ بالمستقبل وخبرته في الحدس السياسي بشيء من التفرد الذي لا يتوافر إلا للزعامات التاريخية صاحبة القرار الرشيد أمام أعتي التحديات وأعقد المواقف, فإذا كان غاندي هو فيلسوف الشخصية الهندية, فإن نهرو هو مؤسس الدولة الهندية بعد ذلك, ولم تخطئ حسابات نهرو إلا مرة واحدة, ولعله من المؤسف أن ذلك حدث في آخر سنوات عمره, فهزيمة القوات العسكرية الهندية أمام الجيش الصيني في معارك الحدود عام1962 كانت بمثابة الضربة القاسية لـنهرو في شيخوخته التي نالت من بريق زعامته, وأصابته بدرجة من الشحوب السياسي إلي أن انتهت حياته بعد تلك الهزيمة بعامين فقط, ثم تولي بعده سياسي عابر هو شاستري الذي قضي نحبه في مدينة طشقند بالاتحاد السوفيتي السابق, وهو يحضر لقاء قمة هندي ـ باكستاني في محاولة لتسوية المشكلات المزمنة بين البلدين, وقد جاء عنوان صحيفة الأهرام يومها: شاستري يموت في طشقند وكأن الأستاذ هيكل قد اختار فعل الوفاة في اللغة العربية بدلا من استخدام اسم الوفاة ليؤكد معني النهاية السريعة لزعيم جاء وذهب وكأنه ظل تابع لزعامة ضخمة سبقته, وجاءت بعده أنديرا غاندي إلي مقعد رئاسة الوزراء وزعامة الحزب الهندي في خلافة قوية لوالدها الراحل.
هذه بعض ملامح ابن الهند البار جواهر لال نهرو الذي اختارت منظمات دولية كثيرة يوم مولده لكي يكون عيدا للطفولة اعترافا بفضله في تدعيم استقرار بلاده, وتأمين مستقبل أجيالها القادمة, فهو الذي أرسي تقاليد ثابتة للعمل الوطني, ووضع الإطار الصحيح لحركة المجتمع الهندي رغم أنه كان محاطا بجارتين تحملان لبلاده نظرة شك وحذر, هما دولتا الصين وباكستان, ورغم ذلك استطاع أن يكون مع عبدالناصر وتيتو طرفا فاعلا في مثلث قوي وضع الأسس المتينة لحركة عدم الانحياز في ظروف الحرب الباردة وفي ظل سياسة حافة الهاوية التي عرفها العالم في الخمسينيات والستينيات من هذا القرن, وهو أيضا نهرو الذي استطاع أن يضع الجسور السليمة لتحديث الحياة في بلاده, فهو الذي بدأ تجربة التخطيط القومي المركزي وأسهم في تشكيل مجلسه الأعلي لكي يكون أداة لتصحيح حركة التقدم الهندي في كل المجالات, وصيغة للانطلاق في كل الاتجاهات.
وسوف يبقي الرابع عشر من نوفمبر مقترنا باسم هذا الزعيم السياسي صاحب الأبعاد الإنسانية مثلما يقترن بكوكبة أخري من المرموقين علي ساحة الحياة في هذا القرن, وهو أمر نستطرد في الكتابة عنه إيمانا منا بأن دراسة الشخصيات القائدة إنما تنطلق من إدراكنا أنها جزء لا يتجزأ من حركة التاريخ وفلسفة التقدم وطبيعة التطور.
جريدة الأهرام
http://www.ahram.org.eg/Archive/1998/11/10/WRIT2.HTM