كان لقاء الرئيس «السيسى» بالسيدة «نادية الأيزيدية» التى تعرضت لجرائم «داعش» إهانة واغتصابًا وسجنًا مدعاة لفخر كل مصرى لأن تلك السيدة العراقية غير المسلمة قد رأت ما لا يخطر على قلب بشر وأثبتت بما لا يدع مجالًا للشك أن جرائم «داعش» قد فاقت التصور وجاوزت الحدود وأنها جرائم موجهة ضد «الإسلام» بالدرجة الأولي، تشويهًا لصورته وتمزيقًا لمكانته ودعمًا لأعدائه مع دق «إسفين» بينه وبين الحضارة الإنسانية والجنس البشرى كله، لذلك جاء لقاء الرئيس «السيسى» لكى يكون اعتذارًا علنيًا باسم «الحضارة العربية الإسلامية» عما فعله السفهاء منا والمجرمون المحسوبون علينا والآثمون الذين خرجوا على ديننا وأساءوا إلينا على نحو غير مسبوق فى تاريخنا كله، لذلك فإننى أظن أن عام 2015 فى التقويم الميلادى سوف يسجل مجموعة من الجرائم التى تفوقت فى وحشيتها وضراوتها على جرائم العصور الوسطى والقرون المظلمة فى عمر الحياة على الأرض، وإذ نحن ودعنا عام المآسى الدامية واستقبلنا عامًا جديدًا نرجو له أن يكون عام تصحيح الصورة وتعديل المسار فإننا نناقش بالضرورة عددًا من الملاحظات الحاكمة فى هذا السياق:
أولًا: إن نشأة تنظيم «داعش» تبدو واحدة من أغرب الأحداث المؤلمة فى التاريخ المعاصر، فالذين صنعوه لم يتبينوا مخاطر ظهوره، ومثلما صنعت «الولايات المتحدة الأمريكية» على عينيها «تنظيم القاعدة» لمواجهة الوجود «السوفيتى» فى «أفغانستان» منذ عدة عقود ثم دفعت الثمن هى وغيرها غاليًا بعد ذلك إلا أنها لم تع الدرس وأسهمت بشكل مباشر فى ميلاد ونشأة تنظيم «داعش»، ولقد شاهدت حديثًا متلفزًا للمرشحة المحتملة للحزب الديمقراطى الأمريكى فى الانتخابات القادمة «هيلارى كلينتون» التى كانت وزيرة للخارجية فى إدارة «أوباما» الأولي، ولقد قالت بالحرف الواحد ( نحن الذين صنعنا هذا «الإرهاب» ودعمناه كما فعلنا من قبل فى نشأة «تنظيم القاعدة»)، ولا يخالجنى شك فى أن هناك عدة أهداف وقفت وراء ميلاد هذا التنظيم بدءًا من تدريب ودعم «لوجستي» من «تركيا» بهدف الإطاحة بنظام «الأسد» وإيجاد ركيزة لها فى «العراق» تسمح بتحقيق بعض الأطماع الإقليمية فى كل من القطرين العربيين «سوريا» و«العراق» أما «الولايات المتحدة الأمريكية» ووراءها فكر استراتيحى إسرائيلى فإنها تسعى لإضعاف الدول العربية وتفكيك الدولة القطرية وتحويل المنطقة إلى «كنتونات» طائفية تسمح لـ«إسرائيل» بأن تطفو على السطح وأن تسود بل وأن تقود أيضًا، وقد أسهمت فلول الجيش العراقى المنحل وعناصر من متمردى «الشيشان» فى ميلاد هذا التنظيم بتسليح غربى أشبه بتسليح الجيوش النظامية ورفع «الداعشيون» اسم «الدولة الإسلامية» شعارًا براقًا يستهوى من لا يعرفون الحقيقة ويتوهمون أن الخلافة قد عادت وأن دولة جديدة تطرح وجودها فى المنطقة، فنشأة «داعش» مرتبطة بمخطط كبير لإحكام السيطرة على المنطقة مع إعادتها إلى «العصور الوسطي» أو إلى عصر «السلطنة العثمانية» على الأقل.
ثانيًا: لقد صنع الأمريكيون كارثة كبرى عندما قاموا بإثارة «نعرة» الخلاف المذهبى بين «السُنة» و«الشيعة» فى محاولة خبيثة لإحياء صراع القرن الأول الهجرى، وقد قال الأمريكيون للعراقيين إن البريطانيين قد جاملوا «السُنة» عام 1920 وقد جاء الوقت لنرد الاعتبار للوجود الشيعى فى «العراق» خصوصًا بعد حل الجيش الذى حارب «إيران» ثمانى سنوات بقيادة «صدام حسين»، والواقع أن إثارة نعرة «الشيعة» و«السُنة» تضر ضررًا بالغًا بالعرب والمسلمين على حد سواء إذ أن لدينا ملايين من «الشيعة العرب» الذين تسبق عروبتهم تشيعهم، والأمر ذاته بالنسبة لدول مثل «مصر» التى لا تعرف إلا إسلامًا واحدًا بعيدًا عن تقسيمات الفرق والمذاهب حتى قيل (إن الشعب المصرى سنى المذهب شيعى الهوى) انطلاقًا من ظهور الدولة الشيعية الأولى تحت حكم «الفاطميين» فى «مصر».
ثالثًا: إننا نظن أن «الإسلام السياسى» وحدة متكاملة يصعب التمييز نظريًا بين مكوناته ولكن على المستوى الواقعى فإن هناك ظلالًا تبدأ من «الإسلام المعتدل» لتصل إلى أعلى درجات العنف الذى يتجاوز ذلك إلى حد «الإرهاب» وفقًا لشعارات دينية مغلوطة أو تأويلات تاريخية تفتقد إلى الدقة وتبتعد عن روح الإسلام الصحيح، ولقد كان من نتائج ذلك أن وجدنا أن معظم تنظيمات «الإسلام السياسي» تدين بالولاء للحركة الأم وهى جماعة «الإخوان المسلمين» التى انطلقت من «مصر» عام 1928، لذلك فإن الشعارات التى رفعها تنظيما «القاعدة» و«داعش» هى محاولة متطرفة فى إطار حديث فج عن الخلافة الإسلامية والدولة الدينية وهو أمر تدرك «إسرائيل» وحلفاؤها أهمية تأثيره فى شق الصف داخل العالمين العربى والإسلامى وجذب البسطاء ليصبحوا وقودًا لممارسات إجرامية لا علاقة للإسلام بها ولا سند لها فى «القرآن» و«السُنة» ولذلك فإن التنظيمات المتطرفة هى ذات توجه واحد مهما اختلفت المسميات والغايات.
رابعًا: إن المراكز الإسلامية الكبرى فى العواصم الغربية المختلفة مطالبة بأن تقف فى المواجهة أمام العدوان الجديد على الإسلام لدرء الخطر عنه مهما كان الثمن ومقاومة محاولات تشويهه والإساءة إلى المسلمين فى الدول غير الإسلامية ، كما أن «الأزهر الشريف» مطالب قبل غيره بأن يقود ملايين المسلمين فى توعية دينية مؤثرة وكشف واضح لزيف «داعش» وأخواتها لأن ما يجرى هو مؤامرة على الإسلام والمسلمين.
خامسًا: لم يعان بلد من الضغوط التاريخية والحصار السياسى المستمر مثلما عانت «مصر» عبر تاريخها الطويل، فجيشها الباسل يمضى فى معارك ضارية لتطهير «سيناء» من جيوب «الإرهاب» بينما تهدد حدودها الغربية جحافل «داعش» الإرهابية فضلًا عن محاولات العبث جنوبًا ابتداءً من موضوع «سد النهضة» مرورًا بالعلاقات مع «السودان» الشقيق وصولًا إلى كل ما يجرى تدبيره ضد الوطن المصري، ولقد استعدت ثقتى فى المستقبل عندما دعتنى القوات المسلحة المصرية لإلقاء سلسلة من المحاضرات فى الكليات العسكرية العليا ورأيت أننا نملك جيشًا متحد الكلمة قوى الإرادة يهتم بعناصر التسليح والتدريب والتنظيم على نحو يضعه فى مصاف الجيوش الكبرى ويعطينا إحساسًا بالثقة فى محاربة «الإرهاب» ومواجهة جرائمه .. إذا كان عام 2015 هو عام «داعش»، فإننا نأمل أن يكون عام 2016 هو عام التسامح الدينى والاستقرار السياسى وتحقيق نصر حاسم على أعداء «مصر» وخصومها فى كل مكان!
د. مصطفي الفقي;
جريدة الأهرام العدد 47146
تاريخ النشر: 5 يناير 2016
رابط المقالة: http://www.ahram.org.eg/NewsQ/466727.aspx