فى لقاء لى مؤخرًا مع الدكتور عصام شرف رئيس الوزراء الأسبق قال لى إنه فى لقائه مع رئيس وزراء إثيوبيا الراحل زيناوى تطرق الحديث إلى مشروعات إنشائية على نهر النيل، وأكد يومها رئيس وزراء إثيوبيا أن سد الألفية الذى سمى فيما بعد بـسد النهضة هو سد صغير تتراوح كمية المياه المحتجزة وراءه ما بين 11و14مليار متر مكعب ولكننا اكتشفنا بعد ذلك أن الرقم قد قفز إلى 74 مليار متر مكعب، وذكر رئيس الوزراء المصرى الأسبق أنه قال يومها لنظيره الإثيوبى الراحل إن آفاق التعاون بيننا بلا حدود وأنتم فى إثيوبيا تفتقدون مخرجًا على البحر للتصدير تجاه أوروبا ونحن نستطيع أن نتحاور حول بقعة فى الإسكندرية أو دمياط أو بورسعيد تكون منفذًا للبضائع الإثيوبية على الأرض المصرية من خلال اتفاق بيننا يؤكد حسن نية الطرفين الشقيقين، وقد أضاف الدكتور عصام شرف أنه لاحظ السعادة المفاجئة التى طفت على وجه زيناوى وجعلت الشعيرات القليلة فى رأسه تكاد تقف!، ولقد لفت نظرى هذا الحوار إلى وجود آفاق رحبة للتعاون المشترك بين مصر ودول حوض النهر خصوصًا إثيوبيا وأوغندا، وإذا كان موقفنا تجاه الحقوق التاريخية المصرية من مياه النهر ثابتًا ولا يقبل المساومة إلا أن ذلك دفع قانونى بحت يمكن أن تعززه مظاهر سياسية تقتلع المسألة من جذورها وتضع كل الأطراف على الطريق الصحيح وتعود بالفائدة على الجميع دون استثناء لأن الحياة تقوم على المصالح المتبادلة، كما أن العلاقات بين الدول يمكن أن تحكمها المبادئ بعض الوقت، والعبارات العاطفية يمكن أن تسكن المشكلات بعض الوقت أيضًا، ولكن لا شيء يربط الدول ويوثق العلاقات بين الشعوب ويقارب بين الأمم مثل المصالح المشتركة، لذلك فإننى أطالب المفاوض المصرى فى موضوع سد النهضة بتوسيع دائرة المفاوضات لكى تغطى مساحة واسعة وشاملة من المصالح المشتركة التى يمكن خلقها بين الدولتين، فلغة العصر تقوم على الأخذ والعطاء، ونحن نطالب الحكومة الإثيوبية بالالتزام الكامل باتفاقيات مياه نهر النيل وتقديم ضمانات بعدم المساس بالحصة المصرية منها، ويمكن فى المقابل ـــ إثباتًا لحسن النية ـــ أن تقوم مصر بشراكة حقيقية فى المشروعات التنموية الإثيوبية مع زيادة حجم التبادل التجارى وتوظيف استثمارات مصرية فى إثيوبيا من خلال مشروعات صناعية واستزراع أراضٍ على الهضبة ومسطحات السهول فى المناطق غير الصخرية حول مجرى النهر فى الأراضى الإثيوبية خصوصًا وأننا نعلم أن دولًا عربية شقيقة لها مليارات الاستثمارات فى إثيوبيا ولكنها لم تشأ أن تكون وسيطًا لحماية حقوق الشقيقة الكبرى من مياه النهر ولكن هذا هو حال الأمة العربية حاليًا!، إن لدى مصر الكثير الذى يمكن أن تقدمه لـدول حوض النهر من معونات تكنولوجية ومنح دراسية وأفكار عملية للنهوض بالحياة على أرض تلك الدول الأكثر فقرًا والأشد حاجة، فالتعاون فى مجال الكهرباء كان يمكن أن يوظف الخبرة المصرية عبر سدود صغيرة لا تؤثر على حصة الدول من مياه النهر بدلًا من هذا المشروع المتعنت الذى لا يبرأ من أغراض سياسية والذى تقف وراءه بالتأكيد قوى تعادى مصر وتحقد عليها وتسعى لإضعافها وإطفاء أضواء الحضارة على أرضها، إننى أطرح هنا محاور ثلاثة لدعم العلاقات بين القاهرة وأديس أبابا بل وغيرها من دول الجوار الإفريقى باستثناء السودان لأن روابط قوية تجمعه مع مصر ولا يمكن مقارنتها بغيرها، وهذه المحاور سياسية واقتصادية وثقافية وهي:
أولًا: إن دعم العلاقات بين دول حوض النيل سياسيًا على المستويات الحكومية والبرلمانية ومؤسسات المجتمع المدنى هى مسألة ضرورية بشرط أن تقوم على أسس واعية تحتوى الواقع ولا تحلق فى الخيال ولا تلوك العبارات العاطفية أو الحماسية فى كل مناسبة، كذلك فإن لجنة سياسية مشتركة على مستوى رؤساء الحكومات هى فكرة مطروحة لإقامة جسور الحوار المستمر وتبادل الرأى والتفاوض حول الأزمات المحتملة بشكل استباقى يسمح بتجاوز كل ما من شأنه أن يعيق مسيرة العلاقات بين مصر ودول الجوار الإفريقي.
ثانيًا: محور اقتصادى يقوم على دراسة مسحية لاحتياجات كل دولة وسبل التبادل التجارى معها على أن تبحث مصر باعتبارها دولة رائدة فى مشكلات أشقائها وتأخذ بيد كل منها مما تعانى منه، فالمعونة الفنية تكون أحيانًا أقوى من الدعم الاقتصادى فالأمر هنا وفقًا للمثل الصينى يبدو وكأنه تعليم للصيد بدلًا من إعطاء سمكة خصوصًا وأن فى الجعبة المصرية كثير من المشروعات التنموية التى تجعل العلاقات المصرية الإثيوبية ربحًا للطرفين وفائدة للشعبين، وهنا نشير مرة ثانية إلى إمكانية منح مصر تسهيلات لـإثيوبيا فى أحد الموانى المصرية على البحر المتوسط للتصدير إلى أوروبا عندئذ نخلق جوًا من التوافق ومناخًا لاستعادة الثقة التى هزها تجاهل مصرى طويل واقتراب إثيوبى بـ إسرائيل حيث يشتركان تاريخيًا فى الولاء لمملكة النبى داود وابنه سليمان.
ثالثا: محور ثقافى فلقد لفت نظرى فى يوم حفل تأبين الراحل د.محمود المناوى بمبنى مكتبة جامعة القاهرة حيث زرنا المتحف بصحبة رئيس الجامعة المتميز، وشهدنا مخطوطات إثيوبية قديمة لا تقدر بثمن، أى أن الروابط الثقافية بين البلدين تضرب بجذورها فى أعماق التاريخ خصوصًا وأن الحقبة القبطية فى تاريخ الدولتين تحتوى محطات تؤكد التقارب الروحى والثقافى بين مسيحيى ومسلمى الحبشة شريطة وجود رؤية شاملة وسياسة مستمرة تربط بين البلدين بدلًا من العلاقات الموسمية التى تتأرجح صعودًا وهبوطًا وفقًا لبورصة المشكلات القائمة أو الأزمات الطارئة.
أيها المفاوضون المصريون والسودانيون والإثيوبيون حول موضوع سد النهضة يجب التعامل معه فى إطار تصور متكامل لمنظومة العلاقات الإقليمية والمصالح المشتركة عندها سوف نكتشف آفاقًا واعدة يمكن أن تجعل الجميع رابحين بدلًا من أن يكونوا خاسرين أو يحقق أحدهم مزايا على حساب غيره وهو ما لن يحدث أبدًا!
د. مصطفي الفقي;
جريدة الأهرام العدد 47160
تاريخ النشر: 19 يناير 2016
رابط المقالة: http://www.ahram.org.eg/NewsQ/469462.aspx