لم تختلف الدول ــ حكومات وشعوبًا ـــ على مفهوم قضية واحدة مثلما هو الأمر بالنسبة لقضية حقوق الإنسان، وذلك لأنها مسألة نسبية تخضع لظروف المكان والزمان وطبيعة السكان، ورغم اعترافنا بوجود حد أدنى مشترك لها فإنها تبقى دائمًا موضوعًا جدليًا تختلف فيه الأنظمة وفقًا لظروف كل منها، ولعلنا نتذكر الآن كلمات الرئيس الفرنسى (ماكرون) فى زيارته الأخيرة للقاهرة وما أثارته من جدل بل وانتقاد، وقارن الكثيرون بين انتقاداته لملف حقوق الإنسان فى مصر وبين الطريقة التى تعاملت بها الشرطة الفرنسية مع أصحاب السترات الصفراء فى شوارع (باريس) والمدن الفرنسية الكبري، ولقد رأيت شخصيًا فيلمًا تسجيليًا يوضح وحشية الشرطة الفرنسية فى تعقبها للمحتجين والتعامل معهم ضربًا مبرحًا وسحلًا بشعًا لم تبرأ منه الفتيات ولم يهرب منه الشباب، ورغم أن القياس مع الفارق بين الحالتين المصرية والفرنسية فإننا نزعم أن قضية حقوق الإنسان المعاصرة تثير جدلًا يمكن التعرض له من خلال المحاور الآتية:
أولًا: إن حقوق الإنسان تمثل فى مجملها قضية جدلية تتأرجح بين العالمية والمحلية، فالبعض يراها قضية مطلقة تتصل بالإنسان فى أى مكان وأنه لا يوجد فروق عند تطبيقها أو الحديث عنها بين بلد وآخر إذ إن هناك معايير عالمية ثابتة لحقوق الإنسان يجب الالتزام بالحد الأدنى منها مهما تكن الظروف والأوضاع، بينما يرى فريق آخر أنها قضية نسبية بامتياز فحقوق الإنسان الأمريكى لا تقارن بحقوق الإنسان فى إحدى دول الجنوب فالفوارق الثقافية والاجتماعية والاقتصادية والمواريث التاريخية ومنظومة القيم والتقاليد تختلف من بلد إلى بلد وتتباين من شعب إلى شعب، لذلك فإنه من غير المقبول أن تكون هناك معايير موحدة وثابتة تنطبق على كل الدول دون الأخذ فى الاعتبار ظروفها التاريخية وأوضاعها الجغرافية وأحوالها الاقتصادية والتركة الثقافية التى ترزح تحتها، فالمثلية ـ على سبيل المثال ـ مجرمة تمامًا فى الدول الإسلامية بل وغير مقبولة فى معظم دول العالم ولكنها تبقى أحد حقوق الإنسان فى بعض الدول الغربية بل إنها تقوم بتجريم من ينتقدها أو يعلق عليها، كذلك فإن حقوق الإنسان اقتصاديًا هى مسألة جديرة بالبحث، فالحد الأدنى للمعيشة يمثل واحدًا من حقوق الإنسان ولكنه يتفاوت من بلد إلى آخر لذلك يبقى فى النهاية ضرورة الاعتراف بنسبية حقوق الإنسان، فالأميرة الراحلة (ديانا) الزوجة الأولى لولى عهد بريطانيا عندما لقيت مصرعها فى حادث سيارة بكتها الملايين واعتبروها قديسة بل وغطت وفاتها على وفاة (الأم تريزا) فى الهند التى رحلت وقتها رغم أن ديانا - وقد رأيت ذلك شخصيًا على التلفاز - قد اعترفت بخيانتها لولى العهد وهى لا تزال فى عصمته بينما قتل صعيدى مصرى ابنته لأنها تزوجت شخصًا لا يريده مع أنه لا يوجد سبب لرفضه بسبب الديانة أو مستوى التعليم أو الوضع الاقتصادى وهكذا تتفاوت حقوق الإنسان بين المجتمعات بشكل واسع.
ثانيًا: إننى أحسب أن الفروق الثقافية عامل حاكم فى تحديد نسبية حقوق الإنسان من مجتمع إلى آخر لأن الخلفية الثقافية هى التى تحدد مسار الإنسان وسلوكه والحقوق التى يدافع عنها والأخرى التى لا يهتم بها، فالحد الأدنى المقبول لمستوى المعيشة يمثل واحدًا من حقوق الإنسان ولكنه يختلف بالطبع من دولة إلى أخرى وفقًا للدخل القومى وهيكل توزيع الثروة بين فئات المجتمع وطبقاته، كما أن أولويات المواطن الفقير، تختلف عن تلك التى يفكر فيها الأقدر ماليًا، فالغذاء والكساء والمسكن حقوق يحلم بها الفقير بينما هى متوافرة للطبقات الأعلى التى ترى أن حقوقها مختلفة وأن أحلامها متباينة.
ثالثًا: يلعب الوازع الدينى دورًا أساسيًا فى حياة شعوب معينة، سواء أكانت إسلامية أو مسيحية أو بوذية أو غيرها فتعاليم الأديان هى مؤشر أساس فى فهم طبيعة حقوق الإنسان والالتزام بها والحرص عليها كما أن بعض الديانات ذات الشرائع الثرية وفى مقدمتها الإسلام قد وفرت هى الأخرى ضمانات لحقوق الإنسان قد لا تفطن لها القوانين الوضعية المعاصرة، ولذلك فإن حرية المعتقد وممارسة الشعائر الدينية هى من أولويات منظومة الحريات المعاصرة والتى تتجدد بسببها المشكلات وتتعدد الأزمات نتيجة الفهم النسبى لمطلب حرية العقيدة باعتباره واحدًا من أهم عناصر حزمة الحقوق التى يدافع عنها إنسان العصر.
رابعًا: إن هناك ضرورات تستوجب أحيانًا تعطيل بعض حقوق الإنسان بسبب مناخ معين أو بيئة بذاتها مثل تلك الناجمة عن انتشار الظواهر الإرهابية وشيوع الجريمة المنظمة وهناك مقولة تنسب لرئيس وزراء بريطانيا السابق يقول فيها (عندما أقاوم الإرهاب فلا تحدثنى عن حقوق الإنسان!) والحقيقة أن هذا الرأى لايؤخذ على إطلاقه فإن له حدودًا وضوابط أيضًا لأنه قد يمكن اتخاذه مبررًا لخروقات بغير حدود تنال من الحد الأدنى لحقوق الإنسان، وعلى ذلك فإن القضية نسبية تمامًا وتحتاج كل حالة إلى دراسة على حدة ولكن ذلك لا ينفى أبدًا وجود مسطرة دولية يمكن القياس بها على حقوق الإنسان فى كل زمان ومكان.
خامسًا: تبدو المشكلة الحقيقية خلال العقود الأخيرة فى استخدام حقوق الإنسان من جانب القوى الكبرى خصوصًا الولايات المتحدة الأمريكية للتدخل فى شئون الدول الأخرى بذريعة حماية الحريات أو الدفاع عن الديمقراطية أو الحفاظ على الأقليات، وهنا نكون أمام أخطر الممارسات الدولية باسم حقوق الإنسان واستخدامها كمبرر لتحقيق أهداف سياسية على حساب شعوب أخرى أو استقرار دول معينة ولذلك ظهر اصطلاح (القانون الدولى الإنساني) لكى يكون أداة فى يد القوى الكبرى للعبث فى الشئون الداخلية للدول الصغرى وأصبحنا أمام ظاهرة دولية تدعو للقلق وهى رفع شعارات براقة لتحقيق أهداف قد لا تمت لحقوق الإنسان بصلة ولكنها تجرى باسمها وتمضى تحت شعاراتها.
إن قضايا حقوق الإنسان نسبية بطبيعتها تحتاج إلى قدر كبير من الحياد والموضوعية والفهم الدقيق لظروف كل دولة والبيئة السياسية فيها والمناخ الثقافى السائد عبر تاريخها الطويل وتراثها العريق بل وديانتها ولغتها والمزاج الوطنى فيها.
جريدة الأهرام
http://www.ahram.org.eg/NewsQ/700965.aspx