مازلت أجاهر بأننى «إصلاحى النزعة» أكثر منى «ثورى التوجه»، وشفيعى فى ذلك أن «الثورات» هى انفعالات حادة وذات طابع فجائى غير مضمون العواقب لأنها تبدو مثل «العمليات الجراحية» التى قد تؤدى إلى نتائج غير متوقعة بينما قد يكون «العلاج على البارد» ــــ فى بعض الحالات ــــ أمرًا أكثر فاعلية وأضمن نتيجة، وقد يقول قائل إن هناك حالاتٍ تتحتم فيها الجراحة بل وبتر أحد أعضاء الجسد ليبقى صاحبه على قيد الحياة ولا بأس من ذلك إذا اقترن بإطار إصلاحى سريع يلحق بالمريض فى فترة النقاهة، ولقد قصدت من هذه المقدمة «الطبية» فى ظاهرها أن أوضح أن الشعوب قد تعتل صحتها مثل البشر وقد تضطر إلى جراحة عاجلة نسميها «ثورة» ولكن تلك الثورة لا تحقق أهدافها ما لم تقترن ببرنامج إصلاحى طويل المدى ومشروع قومى يلتف حوله الشعب، فثورة بلا إصلاح هى جراحة فاشلة كما أن إصلاحًا بلا تغيير جذرى يبدو كمن يتعاطى العقاقير والجرح مفتوح ينزف دمًا، إن «مصر» بلد عرفت الثورات عبر تاريخها الطويل ولكن تلك الثورات شهدت أيضًا انتكاساتٍ أضاعت نتائج ما تحقق بل وبددت ما هو قائم لسبب بسيط وهو أنها لم تقم فى إطار «مناخٍ إصلاحيٍ» أو «بيئة نهضوية» تشد الدولة إلى الأمام ولا تتركها نهبًا للشعارات الزاعقة أو الهتافات الصاخبة أو التظاهرات المتصلة أو الاعتصامات بلا مبرر، لذلك أصدرت كتابًا منذ عشرين عامًا يقارن بين «نهج الثورة» و«فكر الإصلاح» وناقشت فيه مخاطر الثورة الهوجاء التى يمتطيها السفهاء بل والجبناء أيضًا دون روحٍ إصلاحية تعيد الريادة للوطن والقيادة للشعب، وليسمح لى القارئ بأن أطرح فى هذا السياق الملاحظات الآتية:
أولا: إن «مصر» ليست بلدًا هينًا ولا شعبًا لينًا بل هى دولة شديدة المراس فى الحرب وفى السلام، عرفت «مواكب التنوير» قبل غيرها وأضاءت المنطقة بقواها الناعمة وواجهت الغزاة والطغاة على امتداد تاريخها الطويل، ومنذ أسس «محمد علي» الكبير دعائم الدولة الحديثة حمل المصريون «شعلة التنوير» التى أضاءها «حسن العطار» و«رفاعة الطهطاوي» و«على مبارك» و«محمد عبده» و«طه حسين» و«العقاد» و«الحكيم» وغيرهم، إنها «مصر» التى أحالت الفعل الثورى عام 1919 إلى منهج إصلاحى يؤسس لـ«النظام الليبرالي» ويحمى «الوحدة الوطنية» ويشيد رموز التحديث لدولة مصرية راسخة الأركان عريقة البنيان، وهو أيضًا الشعب المصرى الذى أحال ثورة 1952 إلى برنامج إصلاحى يقوم على تحرير الإرادة واستقلال الشعوب وممارسة دور إقليمى فاعل مع محاولة المضى على طريق العدالة الاجتماعية التى تأرجحت صعودًا وهبوطًا وفقًا لشخصية الحاكم الفرد من «عبد الناصر» إلى «السادات» و«مبارك».
ثانيًا: عندما خرجت الجماهير منذ 5 سنوات لتسقط نظامًا ولتؤسس لفكر جديد وعصر مختلف فقد استبشرنا بها جميعًا سواء من كان يتعامل مع النظام السابق مختارًا أو مضطرًا أو أولئك الذين ناصبوه العداء فى شرف، ولقد كان الجميع يشعر بأننا فى المشهد الثلاثين من الفصل الثالث والأخير وأن الستار سوف يسدل فى أى وقت، ولقد قلنا ذلك مرارًا ونبهنا إليه مواربة بل وصراحة أيضًا فيما نكتب أو نقول ولكن «حكام مصر» غالبًا تصيبهم حالة من إنكار الواقع خصوصًا إذا طال عليهم الأمد وامتد بهم الأجل وطالت السنون لذلك توقعنا غداة انتصار «ثورة 2011» بأننا مقدمون على نقلة نوعية تنتشل الوطن من نفق مظلم وتخرج به من «عنق الزجاجة» إلى آفاق واعدة بالإصلاح الحقيقى والعمل لبناء دولة عصرية حديثة تربط بين الديمقراطية والتنمية وتضع المصريين على الطريق الصحيح، ولقد أسهمت «القوات المسلحة المصرية» ذات التاريخ الشعبى المتألق فى إسقاط النظام السابق وإنهاء أسطورة «توريث الحكم» ومحاولة نقل البلاد والعباد إلى مسار إصلاحى يتناول ملفات مزمنة مثل «التعليم» و«الصحة» و«العشوائيات» و«تعمير سيناء» و»نزع الألغام» وتحقيق «العدالة الاجتماعية» الحقيقية وإقرار مبدأ «تكافؤ الفرص» مع العناية بتدريب الشباب حتى يتقابل العرض المطروح مع الطلب المتاح وتلتقى «منحنيات السواء» ويختفى «غول البطالة» الذى كان أحد أسباب خروج مئات الألوف إلى الشوارع فى ثورتين متتاليتين للخلاص من نظامين رفضنا أولهما لفساده ولفظنا الثانى لانعدام وطنيته.
ثالثًا: إن التجارب التنموية الناهضة فى عالم اليوم لم تقم بالثورات وحدها، فالبرنامج الإصلاحى الذى قاده «شواين لاي» فى «الصين» جاء مكملًا للمد الثورى الذى صنعه «ماو تسى تونج»، كذلك فإن الخطط الإصلاحية التى اتبعها «جواهر لال نهرو» فى «الهند» هى نتيجة للروح التى نفخها «المهاتما غاندي» بفلسفته ومبادئه الباقية، كما أن «مهاتير محمد» فى «التجربة الماليزية» قد استمد من بشاعة الفقر وشدة التخلف روحًا ثورية إصلاحية نقلت بلاده من مستنقع آسن إلى دولة عصرية متقدمة، وحتى فى «الغرب» فإن «حزب العمال البريطاني» بدوره المؤثر فى سياسات «المملكة المتحدة» خلال القرن الأخير هو نبت شرعى من «الحركة الفابية» بروحها التقدمية والعلمية فى ذات الوقت، فالشعوب الناهضة فى «الشرق» و«الغرب» على السواء قامت وازدهرت على دعائم حركات إصلاحية وليس مجرد انفعالات ثورية، ذلك قول نؤكده ونردده عن إيمان ويقين.
رابعًا: إن «الإصلاح الحقيقي» هو انعكاس لمسيرة علمية تقوم على دراسات مستفيضة وأبحاث ميدانية واستطلاعات جادة من أجل صياغة رؤية شاملة لسنوات طويلة على المدى البعيد مع محطات توقف للمراجعة ترتبط بمعدلات يتم تحقيقها فى كل مرحلة منها على حدة حتى تقيس الشعوب ما حققت وتدرك حجم ما أنجزت إذ أن حماسها لما تفعل وقناعتها بالطريق الذى تمضى فيه هما أمران لازمان لتحرك القاطرة إلى الأمام، وأحذر هنا من «النظرة الجزئية» والعمل بنظام «القطعة قطعة» دون أن يكون هناك تصور شامل أو رؤية كاملة لاستشراف المستقبل ومعرفة الخطوة التالية قبل البدء فى سابقتها وذلك ضمانًا لعدم الانتكاس أو الدخول فى تفاصيل نتوه معها وتضيع فيها الخطوط العريضة للمستقبل.
إنما أردت أن أسجل هذه الملاحظات بمنطق إصلاحى يستكمل الفعل الثورى ويضيف إليه ويبنى عليه، فالثورة بلا إصلاح هى جسد بلا رأس، وهى عضلات بلا عقل، وهى انفعال غير محسوب قد يؤدى إلى تشنجات عصبية وعواقب وخيمة يكون من مظاهرها الانفلات الأمنى والتدهور الأخلاقي، و«كنانة الله» فى أرضه لا تحتمل ذلك مرة أخرى!
د. مصطفي الفقي;
جريدة الأهرام العدد 47174
تاريخ النشر: 2 فبراير 2016
رابط المقالة: http://www.ahram.org.eg/NewsQ/474189.aspx