لقد ارتبطت نهضة الشعوب كما ارتبط تميز الأمم بتأثير الصناعة المتوطنة على أرضها، ولقد عاصرت شخصيًا مئات النماذج من أصحاب التفوق الصناعى وأدركت مدى إسهامهم فى التنمية وفى اختيار من يدافعون عنها، فالأمر المؤكد هو أن الصناعة هى قاطرة التنمية وأنه لا غنى عنها مهما تكن الأسباب والعوائق لتحقيق شراكة المجتمع ككل فى مشروع نهضوى يقوم على الصناعة الوطنية ذ ثقيلة أو خفيفة ذ ذلك أن الصناعة هى الضمان الوحيد لرقى الدول وتنظيم خطواتها نحو المستقبل، ويكفى أن نلقى نظرة على المجتمعات الصناعية فى بدايتها لكى ندرك أنها مقدمات للتفوق الاقتصادى والتميز السياسى والقدرة على تحقيق الأهداف دون تراجع أو انكسار، ولعلنا نعترف الآن أن الثورة الصناعية الكبرى هى التى صنعت أوروبا الحديثة، وأن تجربة كل من محمد على وجمال عبد الناصر فى مصر قد اهتدت إلى أن الصناعة هى الطريق إلى المستقبل لأنها تعنى ذلك التزاوج مع التعليم الذى يؤدى إلى التكنولوجيا التى ترتبط بكل عصر، لذلك فإننى أطرح الآن تصورًا للمستقبل العربى من خلال ازدهار الصناعة فيه وبالتعويل على مسيرة التصنيع فى التجارب المختلفة له، دعنا نناقش الملاحظات الآتية:
أولًا: لا يختلف اثنان على أن الصيد والرعى والزراعة تسبق فى مجموعها الدخول إلى عصر الصناعة، ولكن هذا الترتيب لا يعنى أنها الأقل أهمية رغم أنها ليست الأقدم، فالثورة الصناعية هى الانقلاب الحقيقى الذى ظهر عقب عصر النهضة الأوروبية وانتقل بدولها المتقدمة إلى مصاف جديدة، فالصناعة تعنى التعامل مع الآلة التى تدفع من يعمل عليها إلى مزيد من الإتقان والتجويد مستعدًا لها بالتعليم والتدريب، وإذا كانت المجتمعات الزراعية لها خصائص ترتبط بشخصية الريف فى مواجهة الحضر فإن المجتمعات الصناعية لديها خصائص أخرى ترتبط بأطراف المدن وما يلحق بها من ضوضاء وزحام وصراع يومى بين وسائل الإنتاج وهو أمر لا تشهده المجتمعات الزراعية المعروفة بالهدوء والارتباط المباشر بالطبيعة، نقول ذلك لأننا ندرك أهمية الصناعة فى تحديث العقل وتنوير الرؤية والانتقال من مرحلة الدعة البسيطة إلى مرحلة الحيوية المعقدة والانطلاق نحو آفاق المستقبل، لذلك نربط ربطًا مباشرًا بين الصناعة والتقدم فى كل المجالات، سواء تلك المتصلة بالتعليم والثقافة أو تلك المرتبطة بالبحث العلمى والتشغيل فهى فى مجملها تفتح آفاقًا جديدة أمام الأفراد والجماعات.
ثانيًا: تختصر الصناعة مراحل التقدم أحيانًا، فالانتقال من مرحلة استخدام البخار إلى استخدام الكهرباء ثم إلى المرحلة الإلكترونية إنما تلخص هى الأخرى القفزات الكبرى فى حركة الإنسان إلى الأمام والموجات الصاعدة فى تاريخ الصناعة بل إن التعريف الدقيق لكلمة (تكنولوجيا) إنما يعنى توظيف العلم فى خدمة الصناعة، ولا نكاد نعرف دولة ناهضة إلا والصناعة إحدى المقومات الأساسية فى انطلاقها صعودًا ولا نكاد نعرف أيضًا دولة متخلفة أفرزت صناعة متقدمة فالعلاقة بين الصناعة والتقدم علاقة طردية.
ثالثًا: إن الوعى السياسى يرتبط دومًا بتنامى الصناعة ولعلنا نتذكر أن الثورة الماركسية - إذا جاز التعبير - كانت نتاجًا لأحداث الثورة الصناعية وظهور الطبقة العاملة والصراع بين العامل ورب العمل الذى تعبر عنه صيغة الاستغلال المعروفة بفائض القيمة أى تلك المستقطعة من حق العامل استغلالًا من صاحب العمل، لذلك فإن الصناعة هى التى تخلق الطبقة العاملة التى يؤدى ظهورها تلقائيًا إلى ما يمكن تسميته الوعى السياسى نتيجة ميلاد الصراع الطبقى الذى ارتبط تاريخيًا بالثورة الصناعية وجسدته بقوة أفكار ماركس وإنجلز ثم لينين بعدهما والتطبيقات السوفيتية والصينية ودول شرق أوروبا حتى ظهرت تسميات ترتبط بالحركات الاشتراكية وتشير إلى أسماء مثل تروتسكى وماو تسى تونج، وغيرهما ممن حملوا لواء التطبيقات الماركسية رغم الاختلاف بينهم وفقًا للواقع القومى والظروف القائمة التى أحاطت بكل منهم. رابعًا: لا تتحقق معدلات النمو العالية إلا فى ظل صناعة نامية، سواء أكانت ثقيلة أو حتى خفيفة، فالمعيار هنا يتركز أساسًا على حقيقة مؤداها هو أن الصناعة تحدث طفرات معروفة فى الدخل القومي، وتجعل قضية التوزيع ومعدلاته قضية تابعة لغزارة الإنتاج وجودته، وهل يجادل أحد فى أن الصين الحديثة إنما اعتمدت على الصناعة وإغراق الأسواق بالبضائع وفرض الاقتصاد الصينى على الواقع العالمى الذى لم يكن متاحًا من قبل؟! كما أن صناعة السلاح ذ على سبيل المثال ذ فى الاتحاد السوفيتى السابق هى التى جعلت منه ندًا للولايات المتحدة الأمريكية، فالطائرة والدبابة والمدفع كانت قواسم مشتركة فى الدفع بالتجربة الصينية إلى الأمام، وقد قال أحد المحللين ذات يوم: (لو أننا رفعنا غطاء الصناعة الروسية بعيدًا لوجدنا الاتحاد السوفيتى السابق واحدًا من دول العالم الثالث)، وأنا مازلت أتذكر هذه المقولة التى قيلت غداة حدوث زلزال (أرمينيا) منذ عدة عقود، فالصناعة هى تعبير عن روح الأمة وفخر للشعب ومصدر للاعتزاز. خامسًا: لا يزدهر التعليم والتدريب إلا فى أحضان المجتمعات الصناعية حيث يبدو الأمر برمته جزءًا لا يتجزأ من منظومة الحداثة فكريًا وثقافيًا واقتصاديًا، بل إن النظام المصرفى لم يزدهر كما لم تتقدم حركة الائتمان فى البنوك إلا من خلال المؤسسات الصناعية والمشروعات الكبري، بينما اقتصر الأمر فى علاقة البنوك بالزراعة والإقراض الخاص بالمحاصيل الزراعية التقليدية التى تمثل فى معظمها شخصية المجتمعات الريفية، وتجسدها بنوك التسليف والائتمان الزراعى وهو ما عرفته مصر منذ قرن من الزمان ولكن الطفرة الحقيقية فى البنوك المصرية إنما ارتبطت بعد ذلك بالاختراعات الصناعية والاكتشافات التى خرجت من عباءة التطور التكنولوجي.
إن الصناعة هى قرين التقدم وقاطرة التنمية، كما أنها أيضًا محرض قوى على الديمقراطية من خلال عمليات التحديث التى تدفع بها المجتمعات الصناعية نتيجة الوعى السائد فى المناخ المحيط بالنقلة النوعية التى تحدث نتيجة النهضة الصناعية الكبري.
جريدة الأهرام
http://www.ahram.org.eg/NewsQ/702020.aspx