كنت أتابع عن بُعد تطور حالته الصحية والنفسية وأطلب من صديقى زوج ابنته المهندس «إبراهيم المعلم» أن يهيئ لى زيارة أخيرة له، ولكنى ترددت في ذلك فقد كنت لا أستطيع أن أرى ذلك الراحل العظيم المعروف بحيويته الفكرية وتوهّجه الذهنى وحديثه المتدفق شارد الذهن أو قليل الكلام وهو يقترب من حافة العمر، إن الدكتور «أحمد كمال أبوالمجد» بالنسبة لى- وربما لجيلى كله- أيقونة فكرية من نوع خاص وشخصية متفردة من نمط متميز، لقد عرفته في منتصف ستينيات القرن الماضى في إطار تجربة منظمة الشباب العربى في العصر الناصرى، وكان «أبوالمجد» واحدًا من الرواد ومعه راحل آخر مضى إلى رحاب ربه منذ أيام وهو الفقيه القانونى «أحمد صادق القشيرى» ومعهما ثلة من أعلام مصر وقتها في الساحات السياسية والاقتصادية والحوارات الفكرية والثقافية، ولكن د. «أحمد كمال أبوالمجد» كان في ظنى أكثرهم تأثيرًا على الشباب لأنه امتلك صفاءً في التفكير ووضوحًا في الرؤية وسلاسة في التعبير لا تعوزه الحجة ولا يضيع منه البرهان، فقد امتلك ناصية دراسات القانون دستوريًا ودوليًا وإداريًا، فضلًا عن تمكن لم أر له نظيرًا في الفهم الوسطى المعتدل للشريعة الإسلامية وفقه أهل السنة، وكان- رحمه الله- قادرًا على انتقاء المواقف واستخراج النصوص لإثبات سلامة حجته والتعبير بقوة عن رؤيته.
وكنت أعجب دائمًا من تميزه الواضح- وهو القانونى الضليع- في اللغة الإنجليزية التي كان يندر وجود المتحدثين بها بين القانونيين في مصر، حيث يتميز بعضهم بالانتماء إلى المدرسة الفرنسية وحدها، ولكن «كمال أبوالمجد» الذي درس في مصر والولايات المتحدة الأمريكية خرج عن هذا النسق، وكان نسيجًا وحده، متحدثًا باللغات في طلاقة ورصانة، وقد تشرفت بمزاملته على المنصة في مؤتمرات ثقافية وندوات فكرية، وكنت أصغى لما يقول باحترام وتوقير، فلقد تعلمنا منه جميعًا ما لم نكن قد أحطنا به علمًا، وشاءت الأقدار أن أعمل معه عن قرب في المجلس القومى لحقوق الإنسان لأكثر من سبع سنوات، حيث كان هو نائبًا لرئيسه الراحل د. «بطرس بطرس غالى»، وكنت أنا رئيسًا لإحدى لجان المجلس مع كوكبة من القانونيين والسياسيين والمفكرين وكبار المثقفين، فضلًا عن نقباء المحاماة والصحافة والمتقاعدين من رؤساء الهيئات القضائية، وأشهد الله أن الدكتور «كمال أبوالمجد» كان دائمًا نموذجًا رائعًا للاعتدال والقدرة على توليد الأفكار وتخليق الحجج مع الفهم الصحيح لروح الإسلام والإلمام بأساسيات الديانات الأخرى مع ثقافة واسعة وإحاطة كاملة بآراء من يختلفون معه في وجهات النظر، بما في ذلك تلك التي لا يتحمس لها.. والغريب أن ذلك كله كان محاطًا بسياج رائع من رقة الطبع وسكينة النفس والتواضع الشديد والبساطة المفرطة، لم أره يومًا متجاوزًا على أحد أو متحاملًا على غيره، يحترم خيارات الآخرين، ويقبل الاختلاف في الرأى من منطق «الإمام الشافعى» في رحابة الصدر، وفلسفة «فولتير» في احترام من يختلف معه.
وبهذه المناسبة فإننى أزعم أن الراحل الكبير كان واحدًا من نماذج قليلة في تاريخنا المعاصر جمعت بين أصول الثقافة العربية الإسلامية وركائز الثقافة الغربية المسيحية، أعانه في ذلك تفوقه في اللغات وتعمقه في البحث واجتهاده المتواصل طوال حياته، لقد كان محاميًا دوليًا مرموقًا وحارسًا لفلسفة نشوء المحكمة الدستورية وواحدًا من فلاسفة عصره، مازجًا بين الدراسة القانونية والفهم الصحيح لمقاصد الشريعة واطلاع واسع على مصادر الفقه، أما عن مروءته ونجدته للغير فحدّث ولا حرج، وأتذكر عندما غضبت منى السيدة الأولى- وربما كانت هي على حق- فإذا به يكتب لها دون علمى رسالة يشرح فيها ظروف ما حدث ويبرر ردة فعلى تبريرًا منصفًا في سمو ورقى وحكمة، لأنها كانت تحترم رأيه كثيرًا وتقدر شهادته بحكم تاريخه ومكانته، والغريب أننى لم أعرف برسالته تلك إلا مصادفة بعد ذلك بسنوات ولم يحاول الرجل أن يسجل جميلًا علىّ لأنه أرفع من ذلك بكثير.
لقد فقدت مصر وفقدت العروبة وفقد الإسلام رمزًا شامخًا قد لا يتكرر كثيرًا. إن معظمنا لا يتذكر أنه كان وزيرًا، لأن قيمته كانت دائمًا فوق كل المناصب، كما أن قامته كانت أعلى من كل المواقع.. رحمه الله جزاء ما قدم لأمته طوال عمره.
جريدة المصري اليوم
https://www.almasryalyoum.com/news/details/1386455