أعترف بأنني إصلاحيّ النزعة لا أتحمّس كثيرا للتغييرات الفجائية في شكل الحكم وهياكل الدولة
عندما يتأمل المرء الزعامات التي تقود شعوبها نحو المستقبل، يدرك مباشرة أن هناك توافقاً بين سلوك الحكام وشخصية الشعوب، على الرغم من غياب الديمقراطية الحقيقية في معظم دول العالم.
ولقد قيلت قولة حكيمة في هذا الشأن: (من أعمالكم سُلِّط عليكم)، لذلك نشهد دائماً تجانساً بين طبيعة الشعب ونوعية القيادة، فالشعوب بطبيعتها حرّة أبيّة ولكنها تتفاوت في الوقت الذي تحتاجه كي تثور على من يعطّل إرادتها ويسرق زعامتها، لذلك يُقال دائماً إن الشعوب في النهاية هي سيدة القرار وصاحبة الاختيار، وتتفاوت وطأة الحكم من بلد إلى آخر وفقًا لآليات السلطة وتوزيع مراكز القوة وسيطرة العناصر القادرة على التغيير، سواء بالطرق السلمية أو بالتغييرات الثورية. وأنا أظن شخصيا أن استخدام العنف من أجل التغيير ليس دائماً الفيصل في تحقيق الأهداف، بل إنني أحسب أن تنامي القوى السياسية سلمياً وتصاعد أدوار النخب يمكن أن يؤديا إلى التداول السلمي للسلطة باستخدام حد أدنى من العنف المشروع، إذا لزم الأمر، وذلك وفقاً لمعايير الشرعية وقيود الدساتير واحترام حقوق الإنسان.
ويهمني هنا أن أعترف بأنني إصلاحيّ النزعة لا أتحمس كثيراً للتغييرات الفجائية في شكل الحكم وهياكل الدولة، إذ أن التجربة قد أثبتت أن ما نسميه ثورات قد أدى في كثير من الحالات إلى انتكاسات حقيقية تدفع الشعوب ثمنها بعد أن ظنت أنها قد اتجهت في طريق الخلاص إلى غير رجعة، كما أن الإصلاحيين يملكون دائماً برنامجاً واضحاً ومتدرجاً للتغيير نحو الأفضل، أما النشطاء السياسيون والثوار المتطرفون فلا جدوى- على المدى الطويل– مما يفعلون! ولعلي أطرح هنا بعض المؤشرات التي أراها تؤثر في طبيعة السلطة وديمومة الحكم، وهذه المؤشرات يمكن إيجازها في عدد من الأبعاد الموثقة تاريخياً، وأهمها:
أولاً: إن "الكاريزما" داء يصيب الأمم ويحلّ بالشعوب فيجعلها تمضي وراء حاكم بعينه دون وعي أو رؤية، فهي تلهث وراءه في الانتصارات والانكسارات بنفس الدرجة، لأنها تؤمن بإلهامه وتتأثر بزعامته ولا ترى حولها غيره، فالكاريزما كالضوء المبهر لا يجعل العيون ترى الحقيقة كما يجب، بل هي نوع من المخدرات السياسية إذا جاز التعبير، ولم يكن الخليفة الراشد "عمر بن الخطاب" مخطئاً عندما عزل سيف الله المسلول "خالد بن الوليد" من قيادة جيش المسلمين وهو في أوج انتصاراته وقمة أمجاده مولّياً "أبا عبيدة بن الجراح" بديلاً عنه، ولما سُئل الخليفة العادل من بعض المسلمين لماذا اتخذ هذا القرار الغريب؟ كانت إجابته الحكيمة: (لقد خشيت أن يفتتن به الناس)، ولقد كررت دولة أوروبية كبرى، وهي بريطانيا، نمطًا شبيهاً لما فعله "ابن الخطاب"، إذ خسر "ونستون تشرشل" منصب رئيس الوزراء بعد الحرب العالمية الثانية التي قاد بلاده فيها منتصراً وظافراً حتى جرت تسميته بالداهية السياسي، وهو صاحب القول الشهير لشعبه: (ليس أمامنا إلا الدم والعرق والدموع)، مستخدماً الكاريزما الكاسحة له في توحيد كلمة الشعب البريطاني أمام جحافل النازي التي كانت تمطر لندن بالقنابل، بينما الإذاعة البريطانية تذيع موسيقى راقصة تحدياً للمعتدي ومقاومة للغزو.
لقد اختار الشعب البريطاني في أول انتخابات بعد الحرب تنحية "تشرشل" بكل أمجاده، وخسر المحافظون أمام حزب العمال بقيادة "كليمنت إتلي"، وقال البريطانيون في ذكاء ودهاء معروفين بهما، لقد كسب "تشرشل" الحرب وعلينا أن نبحث عمن يكسب السلام، أي أن يكسب معركة البناء والتعمير التي هي الأولى بعد انتهاء معارك الحرب وسنوات الدم والعرق والدموع. وفي أنحاء العالم نماذج متعددة من الكاريزما المختلفة التي تجعل الشعوب لا ترى إلا من منظار ضيق في ظل هوس ما يسمى بالزعامة التاريخية والكاريزما السياسية.
ثانياً: إن تنامي القوى السياسية وصعودها ديمقراطياً يعتمد على مقومات لا يمكن تجاهلها، وفي مقدمها مستوى التنمية الاجتماعية، بما تعنيه من تعليم وثقافة وشيوع لرؤية واضحة وتفكير مستنير يقود تلك الجماعات السياسية نحو مدارج الديمقراطية الحقيقية من دون وجود حالة من عمى الألوان التي تخدع البصر وتطيح بالبصيرة، لذلك لم نرَ شعباً ينمو ديمقراطياً بينما كل أساليب حياته تمضي في اتجاه معاكس، فالعبرة تتحدد في النهاية بدرجة الوعي العام الذي يملكه شعب معين على نحو يعطيه القدرة على التغيير الإصلاحي عند اللزوم دون خديعة الكاريزما المبهرة أو ضجيج الشعارات الزاعقة أو الابتعاد عن الرؤية الصحيحة، لذلك فإننا نظن أن هناك تلازماً بين مؤشرات النظام التعليمي ودرجة جودته ومدى عصريته وبين نظم الحكم القائمة وأساليب السياسة السائدة.
ثالثاً: إن دور الجيوش الحديثة في الحياة السياسية أمر لا يجب الاستهانة به خصوصاً في دول الجنوب التي ننتمي إليها، فقد لاحظت- ولاحظ غيري– أن القوات المسلحة تبدو في كثير من النظم شريكاً فاعلاً في الإدارة والحكم، ولقد لاحظنا في العقود الأخيرة أن الغرب قد توصّل إلى نظرية اقتنع بها تجاه الدول الإسلامية والعربية، مؤداها أن تلك الدول تعيش حالة استقطاب ثنائي بين دور الجيوش في جانب ودور التيار الإسلامي في جانب آخر، وقد اقتنع الغرب بهذه الصيغة وأصبح يتوهم تطبيقاً لها على خريطة العالم الإسلامي بدءاً من "باكستان" شرقًا وصولاً إلى "الجزائر" غرباً. وفي رأيي أن ذلك تصور لا يأخذ على إطلاقه، بل هو تفكير يحتاج إلى مراجعة لأنه يرتبط بظروف كل دولة والعوامل المؤثرة في مستقبلها، ويجب أن نأخذ في الاعتبار أن دور الجيوش يختلف من قُطْر لآخر، علما بأن درجة التحام بعض الجيوش بشعوبها في وحدة عضوية يجعل هذا التحليل معيباً ويصعب الأخذ به.
رابعاً: إن الظروف الاقتصادية ومواجهة الفقر والخلاص من ربقة التخلف هي أمور يجب وضعها في الاعتبار عند التفكير في العلاقة بين الشعوب والزعامات، لأنها تنعكس سلباً أو إيجاباً في كل حالة وفقاً لظروفها ومعدلات النمو والدخل السنوي للفرد في كل منها.
خامساً: إن التاريخ يحفل بزعامات استثنائية تجعل الحديث عنها مختلفاً عن غيرها، ولنتذكر أسماء مثل "غاندي" في الهند، و"مانديلا" في جنوب أفريقيا، و"ماو تس تونج" في الصين و"شارل ديغول" في فرنسا، وغيرهم من زعامات كبرى أثرت في شعوبها، بل وفي تاريخ العالم كله، وصنعت كاريزما إيجابية من نوع خاص تعتبر إضافة للتراث الإنساني والتاريخ البشري، لذلك فإن التعميم تفكير خاطئ ولا يجب أخذ الأمور على علّاتها مهما كانت الظروف، فلكل شيء وجهان والذي يتحكم في ظهور الإيجابي منهما هو وحده القادر على تأكيد تلك الحقيقة.
هذه نظرة عامة على العلاقة بين الشعوب والزعامات أردنا أن نثبت بها حقيقة واحدة، وهي أن الأمر يختلف وفقاً للظروف النسبية في كل بلد، وأنه لا توجد قاعدة عامة مطلقة يمكن تطبيقها في كل الأحوال، فضلاً عن أن الكاريزما التي قد تبدو شراً في كثير من الحالات لا تكون كذلك في بعض الظروف المتصلة بشعوب بعينها وأمم بذاتها.
جريدة إندبندنت عربية
https://www.independentarabia.com/node/18061/%D8%A2%D8%B1%D8%A7%D8%A1/%D8%A7%D9%84%D8%B2%D8%B9%D8%A7%D9%85%D8%A7%D8%AA-%D9%88%D8%A7%D9%84%D8%B4%D8%B9%D9%88%D8%A8