تتوالى النخب على ساحة العمل العام فى كل عصر من تاريخنا، ولكل منها رموزها وعلاماتها الفارقة، والنخب هى مجموع قيادات الحياة العامة فى المجالات المختلفة ومنهم من يتمتعون بالنجومية سياسية أو فكرية أو رياضية أو فنية أو غيرها، ولكنهم يظلون فى النهاية هم المتربعين على المقاعد المؤثرة فى حركة الرأى العام وتكثيف الوعى الوطنى فى كل المجالات، ويهمنى هنا أن أسجل عددًا من الملاحظات المتصلة بهذا الموضوع:
أولًا: لقد أسلفنا أن لكل عصر رموزه، ولذلك فإن مفهوم النخبة ليس ثابتًا ولكنه متحرك بطبيعته، وقد تكون أقرب الأفكار لتفسير مفهوم النخبة هى تلك المعتمدة على معيار مستوى التعليم الذى يجعل لأصحابه تميزًا وظيفيًا وربما طبقيًا أيضًا إذ إن التميز التعليمى هو الذى يسمح بالحراك الاجتماعى والانتقال من صفوف العامة إلى مقاعد النخبة، إن (على باشا مبارك) قد وفد إلى فرصة التعليم من بيئة عادية أقرب إلى الفقر منها إلى القدرة على الدفع بأبنائها إلى تصدر المواقع الرسمية والقيام بعملية تأثير ثقافى تسمح بالحديث عن الصعود الطبقى والتميز الاجتماعي، ولعلى استعير هنا ذلك التعبير الدقيق الذى طرحه الرئيس السيسى منذ أيام عندما تحدث عن موضوع (ثقافة التعليم) وقد ذكر ذلك مرتين مفسرًا ما يقصده فى حديثه، الأولى أثناء ندوة التعليم والثانية فى حديثه أمام مجلس أمناء مكتبة الإسكندرية والذى أعجبنى فى هذا التعبير أنه يلخص بقوة فلسفة النخبة فهى تلك التى تدرك جيدًا معنى تعبير ثقافة التعليم، والنخب عمومًا بينها قواسم مشتركة وهى أنهم فى النهاية تعبير عن مفهوم أقلية عددية ذات خصوصية فى مواجهة عموم الناس، وقد التصقت بهم صفات النخبة وضعًا فى الاعتبار ارتباط ذلك بالزمان والمكان والظروف المحيطة والبيئة الحاضنة والمناخ السائد.
ثانيًا: لا شك أن مفهوم النخبة لدى كبار السن يختلف عنه بالنسبة للشباب فقد ينحاز كبير السن إلى شخصية تاريخية يؤمن بها ويتحمس لها، أما الشباب فإن مفهوم النجومية يسيطر لديهم عند الحديث عن النخب ويرى الكثير منهم أن الأمر يحتاج إلى قدر كبير من الوعى الذى يدفع إلى دراسة النخبة بما تحويه من رموز فى الرواية والفن والرياضة، وهى كلها مجالات جاذبة بطبيعتها للأغلب الأعم من الشباب فى المجتمعات المختلفة، ولا شك أن تصنيف النخب هو أمر يستحق الدراسة، لأن الأمر لا يقف عند التصنيف الطبقى أو الشرائح العمرية وحدهما ولكنه يتجاوز ذلك إلى تقسيمات أخري، فالنخبة فى الريف تختلف عنها فى الحضر، كما أن النخبة فى أوساط العمال تختلف عنها لدى الفلاحين، فالقضية محكومة فى النهاية بطبيعة العمل ونوعية المهن، بل وحتى الحرف التى تسيطر على جمهرة من ينظرون إلى النخبة ويتلمسون طريقهم إليها.
ثالثًا: كثيرًا ما تحدثت - أنا شخصيًا - عن أهمية العلاقة بين تداول السلطة ودوران النخبة على اعتبار أن هناك علاقة وثيقة بين التميز الفكرى والثقافى فى جانب وبين الصعود الطبقى فى جانب آخر، إذ يعتمد تداول السلطة على توافر النخب الشريكة فى الحكم والتى تحوز السلطة بغض النظر عن درجة شرعيتها ومدى شعبيتها، ولا شك أن دوران النخب يعبر عن حيوية المجتمعات وقدرتها على تجديد ذاتها وتدوير إمكاناتها، ومثل هذا الحراك يبدو أكثر وضوحًا وتأثيرًا فى مراحل الانتقال وفترات التحول إذ يبدو الأمر حينئذ وكأنه مخاض جديد لتجليات قادمة لم تكن متاحة من قبل.
رابعًا: إذا تأملنا مصر فى القرن التاسع عشر لوجدنا أن النخب هى مجموعة من الأعيان وكبار الملاك وصولًا إلى الباشاوات والإقطاعيين من أصحاب الأبعديات الواسعة وحتى التجارة المنتجة وعلى رأسها تجارة القطن ذلك المحصول الواحد الذى كان يعتمد عليه الاقتصاد المصرى حتى أصبح موسم الجنى طقسًا اجتماعيًا تنتظره القرية المصرية بكل مستوياتها وطبقاتها، لأن ذلك الموسم يمثل نقلة نوعية فى حياة الناس فيزوج الأب ابنته ويؤهل للزفاف ابنه وقد يخرج لأداء فريضة الحج إذا ما تيسر له ذلك، فالأمر كان محكومًا باعتبارات موسمية تجعل النخبة مرتبطة بالواقع الاقتصادى والظروف الاجتماعية فضلًا عن البيئة السياسية والمناخ الثقافي.
خامسًا: أحسب أن التعليم هو المكون الأساس فى تشكيل النخبة وهو بحق المتغير المستقل بين عناصر قيامها وعوامل استمرارها، ولو تأملنا تاريخ مصر الحديث لوجدنا أن الطبقة جاءت نتيجة تراكم الثروة، ولكن النخبة جاءت نتيجة تأثير التعليم، ويحضرنى دائمًا نموذج عائلة (عبد الرازق) - من مركز بنى مزار محافظة المنيا - حيث دفعت هذه العائلة بأسماء احتلت مواقع بارزة فى النخبة المصرية من أمثال حسن وعلى ومصطفى من آل عبد الرازق ذلك أن تلك الأسرة قد قررت توظيف ما لديها من ثروة فى خدمة التعليم فكان لها ما شاءت، والقياس مفتوح على نموذج هذه الأسرة العريقة من صعيد مصر على أسر أخرى مرت بظروف مشابهة سواء من مصر العليا أو من ربوع الدلتا، فالنخبة لا تصنعها الثروة وحدها، ولكن التعليم هو محرك الصعود الطبقى ولو لم تقترن به ثروة فهو يسمح لصاحبه بأن يقف فى المصاف العليا جنبًا إلى جنب مع من يملكون، فالتعليم هو الأب الشرعى - غالبًا للثقافة وهو طريق العبور نحو التميز والتفرد والانتخاب الطبيعى الذى يضع صاحبه فى الصفوف الأولى للنخبة.
إن دوران النخبة لا يقل أهمية عن تداول السلطة فقد تتبدل الأخيرة، وتبقى النخب جاثمة على صدر الأجيال الجديدة لا تسمح لها بالمرور، وتكتفى باعتبار تداول السلطة بديلًا كاملًا لدوران النخبة، وهو أمر لا يستعيد توازنه إلا بالنظام التعليمى الذى يفرز عناصر متمرسة على التفكير والتعبير والحوار.
جريدة الأهرام
http://www.ahram.org.eg/NewsQ/705071.aspx