فى يوم بلوغى السبعين عامًا تلقيت اتصالًا هاتفيًا فى الصباح الباكر وكانت المفاجأة هى أن المتحدث هو الراحل الأستاذ محمد حسنين هيكل الذى بادرنى قائلًا: (إن عمرك ليس سبعين عامًا فعندما أقرأ لك أو أستمع إليك أظنك فى التسعين، وعندما أتابع تنقلاتك فى المنتديات المختلفة أحسبك فى الخمسين!)، وقد انطوت عبارته تلك على مجاملة راقية من مفكر سياسى كبير احترمته دائمًا بل ودفعت فاتورة لعلاقتى به، فعندما كنت أكتب بورترية إسبوعى فى إحدى الصحف حول الشخصيات المهمة فى حياتى وكتبت عن الأستاذ هيكل كان القرار المباشر فى اليوم التالى هو منعى من الكتابة فى الأهرام لمدة تزيد على عام كامل ـــ قرار فوقى لا مبرر له! ـــ وقد كتبت فى مقالى عن الأستاذ عبارة هى ( لك العتبى حتى ترضي) ولم أقصد بالطبع أن هيكل نبى ولكنها عبارة استقرت فى ذاكرتى من مقال كتبه الأديب الراحل عبد الرحمن الشرقاوى ردًا على عتاب الإمام الأكبر الصوفى الدكتور عبد الحليم محمود وكان الشرقاوى وقتها رئيس مجلس إدارة (روزاليوسف)، وكان الأستاذ هيكل يعلم دائمًا ـــ حتى فى أثناء عملى فى مؤسسة الرئاسة ــــ أننى متهم بإعجابى الشديد به واحترامى الزائد لأفكاره ومشاركتى الكاملة لنتائج تحليلاته وكنت استأذن الرئيس الأسبق مبارك من حين لآخر فى الذهاب لزيارة الأستاذ ولم يمنعنى مبارك من ذلك أبدًا وذات يوم كنت أجلس معه فى حديقة منزله فى (برقاش) ومضى الأستاذ هيكل فى تحليله للأوضاع العامة بما يحتوى انتقادًا ضمنيًا لأسلوب الحكم فى مصر وقتها وكنت أهز رأسى مؤيدًا دون تعليق، وهنا ظهرت خفة ظل ذلك الكاتب الكبير عندما قال لي: ( يا مصطفى إن التسجيلات لم تعد الآن بالصوت وحده ولكنها بالصوت والصورة أيضًا!) فلقد كان الرجل يملك روحًا إنسانية عالية بها دفء المشاعر وود العلاقة مع الآخرين، وقد أرسل لى رسالة مكتوبة ذات يوم يقول لى فيها:(إنك تحملت بسببى بعض المضايقات فاقبل تقديرى واعتذارى لذلك)، وعندما رحلت أمى ومات أبى كان فى مقدمة المعزين، وعندما تزوجت ابنتاى كان أول الحاضرين، لقد كان الرجل مجاملًا للغاية حتى أنه عندما توفيت والدة زوجتى وكان خارج البلاد أرسل رسالة مكتوبة تفيض خلقًا طيبًا وتوحى بحس إنسانى شديد الرقي، وعندما أجرى معى الكاتب الصحفى محمود مسلم حديثًا خطيرًا قلت فيه بالنص: (إن هناك من يرى أن رئيس مصر القادم لابد أن يحظى بقبول أمريكى ومباركة إسرائيلية) التقط الأستاذ هيكل تلك العبارة وقذفها فى وجه النظام تأكيدًا لمعارضته ـمشروع التوريث حيث تفضح العبارة تلك المحاولة بوضوح، وقال الأستاذ هيكل يومها: (إن الفقى عمل فى مطبخ السياسة وهو أعلم بما يدور فيه) وانزعج النظام وقتها من عبارته لأنه أدرك أن اتهام القاهرة بالانبطاح أمام الولايات المتحدة الأمريكية هو الرغبة فى دعمها مشروع التوريث وقد اتصلت بالأستاذ هيكل ـــ رحمه الله ـــ فاستقبلنى فى الهاتف ضاحكًا ـــ وقد كان بشوشًا بطبعه ـــ فقلت له: ( إننى كنت القنبلة اليدوية التى ألقيت بها على النظام) فقال لي: (إنك تعلم جيدًا أننى أدرك دوافعك من وراء هذه العبارة ولذلك أردت تأكيدها لك من خلال ما قلته فى رسالتى إلى الأستاذ مجدى الجلاد رئيس تحرير المصرى اليوم حول ذلك الحديث الصحفي)، وذات يوم دعيت للاحتفال ببلوغ الكاتب الصحفى الأستاذ عادل حمودة سن الستين وحضر يومها عدد من رفاق مسيرته أتذكر منهم الأستاذ إبراهيم عيسى الذى ألقى الكلمة الرئيسية فى ذلك الاحتفال وكنت أجلس إلى جانب الأستاذ هيكل الذى كان ضيف شرف اللقاء بدعوة ممن رتبوا لتلك المناسبة، وقد قال لى الأستاذ هيكل مداعبًا ما هى المسافة التى يجب أن أحافظ عليها بين مقعدى ومقعدك حتى لا يصيبك ضرر ويكفى ما حدث لك بسببى مشيرًا إلى منعى من الكتابة بعد مقالى عنه! وقد رفض الأستاذ هيكل أن يتحدث يومها وأعطانى الميكروفون لأتحدث بدلًا منه وكان لقاءً حميمًا فى العيد الستينى لأشهر أبناء مدرسة (روزاليوسف) الحديثة، وكان الأستاذ هيكل يتصل بى فى فترات متفاوتة فى شهور المصيف يدعونى للمرور عليه فى قرية الرواد بالساحل الشمالى لرؤيته والحديث إليه، لقد كان الرجل دائمًا هو أعلى القامات فى الحياة الفكرية والثقافية والصحفية فى كل مكان، وأتذكر أن السيد الأخضر الإبراهيمى كان سفيرًا لـلجزائر فى لندن ودعا إلى حفل عيد استقلال بلاده فى اليوم التالى لوصول الأستاذ هيكل للعاصمة البريطانية، وفوجئ السفير الجزائرى اللامع بعشرات الاتصالات من وزارة الخارجية البريطانية وكبار رجال الصحافة يطلبون حضور الحفل رغم أن معظمهم لم يكن مدعوًا له وتقاطر الجميع إلى السفارة الجزائرية حول هيكل ذلك الصرح الفكرى الكبير الذى قد يختلف معه الناس ولكنهم لا يختلفون عليه! لقد كان الرجل يمثل فى حياتنا ـــ مصريين وعربًا ــ واحة الأمان الفكرى لأنه كان يملك الحقيقة ويجاهر بها دون مواربة أو التواء فقد كان يحمل فى عقله اتجاه (البوصلة) الصحيح نحو المستقبل، ولعل الإطار النظرى للعصر الناصرى الذى أسهم فيه هيكل بالنصيب الأوفى هو دليل على ما نذهب إليه، لقد كان خطأ ذلك العصر فى تطبيقاته وليس فى معظم توجهاته، وقد أشرت إلى هذا المعنى عندما طلب منى فضيلة الدكتور عبد الله النجار رئيس مجلس إدارة مسجد سيدنا الحسين أن ألقى كلمة للحضور قبيل أداء الصلاة على روح الراحل العظيم وتبعنى بعدها الروائى الكبير الأستاذ يوسف القعيد عضو مجلس النواب حين كان الجثمان محاطًا بأبنائه ورفاقه وتلاميذه والمئات من محبيه ومريديه، إن رحيل محمد حسنين هيكل هو علامة فارقة فى مسار حياتنا السياسية فقد أعطاه الله عمرًا طويلًا كرسه كله عطاءً لأمته ووطنه وتميز بأسلوب فريد فى الكتابة يجعل مقاله الصحفى مزيجًا من عمق الفكر وأدب الرواية، ومازالت أتذكر عندما ذهبت إليه مبعوثًا من الرئيس الأسبق مبارك أحمل إليه رسائل الرئيس المصرى للرئيس العراقى صدام حسين بعد غزو الكويت فنظر إليها هيكل فى ثوان معدودة وسلمها لى فى الحال فكأنما ألم بكل ما فيها فى لحظات قليلة! وكان الملك الراحل الحسين بن طلال قد دعاه للقائه حتى تكتمل للصحفى العربى الأول جميع دوافع غزو الكويت وتبعة ذلك على المستقبل العربى كله، والسؤال المطروح هل تتراجع الرؤية الوطنية بغياب تلك الشخصية الاستثنائية؟ إننا بالتأكيد نختلف عما كنا عليه فى حياة (هيكل) فقد كان ضمير أمة، ورؤية وطن، ونصير شعب!
د. مصطفي الفقي;
جريدة الأهرام العدد 47202
تاريخ النشر: 1 مارس 2016
رابط المقالة: http://www.ahram.org.eg/NewsQ/482619.aspx