عندما يأتى الربيع يختال ضاحكًا نرى الزهور تتفتح وتكسو الخضرة الأرض التى اختفى لونها تحت وطأة الصقيع الذى مضى والبرد القارس الذى قصف الزرع وجفف الضرع واخترق العظام الواهية فى قسوة متناهية، أقول ذلك كله لأدلل على روعة الربيع وأهميته فى حياة البشر لأنه تجديد للحيوية وبعث للشباب وتدفق للحياة فكيف تأتيه الأحزان؟! الواقع أن الصورة ليست وردية كما أوردناها فكما يحمل الربيع معه الرياح المتربة فإنه يحمل معه أيضًا رياحًا أخرى محملة بالتغيير وهى تلك التى وفدت على المنطقة منذ عدة سنوات وأسميناها الربيع العربي، وفى ظنى أن الأمر لا يؤخذ على إطلاقه فقد اختلطت به بعض التيارات المسمومة بما استوجب الخلاص منها، وتصحيح المسار حتى تتجه البلاد فى طريقها الذى يتفق مع هويتها وتراثها وتاريخها الطويل، لذلك فإننى أظن أن رياح الربيع العربى الذى تحدثنا عنه والذى بدأ يطاول دولتين عربيتين شقيقتين فى إفريقيا هو ربيع يحمل فى طياته نزعات إصلاحية مطلوبة، ولكنه أيضًا قد يفتح بابًا للعنف الذى لا تتحمله المنطقة أكثر من ذلك، لهذا فإننى اتفق مع أولئك الذين يرون أن الربيع العربى لم يكن خيرًا كله ولم يكن شرًا كله بل هو يحتاج إلى دراسات متعمقة ومعلومات وفيرة وإجابات واضحة عن أسئلة كثيرة ندرك معها مغزى ما نمر به وأهمية ما نسعى من خلاله لتقويم تلك الفترة شديدة الحساسية بالغة التعقيد من تاريخ منطقتنا، فأنا شخصيًا لا يخالجنى شك بأن الجماهير التى خرجت يوم 25 يناير 2011 كانت تحمل أهدافًا شريفة فى مقدمتها المطالبة بالعدالة الاجتماعية ورغيف الخبز والحرية وظل ذلك دأبها لعدة أسابيع، وأتذكر أن السفير البريطانى فى القاهرة قد اتصل بى وقتها وعبر عن رغبته فى زيارتى بمكتبى الخاص بوسط المدينة، وعندما جلس أمامى عبر عن إعجابه الشديد بما فعله الشعب المصرى وانبهاره الواضح بوجود مئات الآلاف فى ميدان التحرير دون حادث تحرش واحد أو احتكاك طائفى من أى نوع، وبدأ يشيد بالروح التى تابعها خصوصًا وأن مقر عمله قريب من ميدان التحرير - ويؤكد لى بأن الشباب المصرى أصبح نموذجًا يحتذى به فى كل الدنيا وأن الذين صنعوا الحضارة فى فجر التاريخ يلقنون العالم دروسًا جديدة منها وأضاف الرجل: إن لندن تسألنى ما هو شكل الدعم الذى يمكن أن تقدمه المملكة المتحدة لشعب مصر العظيم فى هذه الظروف؟ فكانت إجابتى سريعة ومتدفقة فقلت له: التعليم.. التعليم.. التعليم، وشرحت له أن محنة مصر الحقيقية وخفوت دورها الإقليمى مرتبطان بتراجع النظام التعليمى فيها، وقلت له: إننى عندما ذهبت إلى بريطانيا دارسًا فى بداية سبعينيات القرن الماضى للحصول على الدكتوراه كان مستوى التعليم المصرى متواكبًا مع مستوى التعليم البريطانى تقريبًا بشهادتهم عند الاختبار العام للقبول لدرجات الدراسات العليا، وعندما تدهور نظام التعليم فى مصر تحت وطأة الأعداد الكبيرة والإمكانات المتراجعة ظهرت الفجوة الحقيقية التى ملأها التخلف والشعوذة والتطرف، وساد البلاد والعباد ما أصابهما فى العقود الأخيرة، فقال لى السفير: وهو حفيد لرئيس وزراء بريطانيا الأسبق ولكن ما هو الاقتراح العملى لدعم التعليم فى مصر؟ فقلت: إننى أطالبكم باستقدام الآلاف من المدرسين المصريين لدورات تدريبية فى المدارس البريطانية فى بلادكم حتى يعودوا مختلفين عما هم عليه الآن، وقلت له: إن نهضة مصر تاريخيًا بدأت بالابتعاث إلى الخارج، وأظنها تستطيع أن تقف على قدميها باستعادة هذه التجربة من جديد فلن تنهض مصر بغير صحوة تعليمية تعيد الأمور إلى نصابها، وكان السفير يسجل ما أقول فى ورقة معه، ولقد سعدت كثيرًا أن وزارة التعليم المصرى تمضى الآن على هذا الطريق فى احتكاك قوى بالخارج ونقل للتجارب الناجحة من دول العالم المختلفة، وقد تحدث الرئيس السيسى أمام رؤساء الدول السابقين فى مجلس أمناء مكتبة الإسكندرية عن التعليم كقضية أولى للبلاد وطلب من وزير التعليم العالى - الذى كان موجودًا فى الجلسة - أن يشرح للحاضرين دور الجامعات الأجنبية الكبرى فى دعم الجامعات المصرية الوليدة التى يجرى إنشاؤها على قدم وساق، وأضاف الرئيس فى مرارة أن بعض الجامعات الشهيرة فى العالم ترفض أن تقيم فروعًا لها فى الدول الأخرى إلا بمقابل مالى لا يحتمل والرئيس بذلك يطرق فى جرأة قضية عامة قد تتصل باحتكار العلم وتحويل المعرفة إلى قضية تحكمية لا يمكن مواجهتها إلا بالنهوض الذاتى والمضى على طريق التعليم الرشيد.
إن أحزان الربيع العربى متداخلة ويصعب إنكارها لكن إرادة المصريين فى السنوات الأخيرة وفى ظل الإصلاح الاقتصادى الجاد والكيان البنيوى الهائل فى حركة إعمار وتشييد غير مسبوقة فى تاريخ البلاد سوف تمضى فى طريقها دون توقف لأنها كفيلة بأن تجعل مصر كما أقول دائمًا (شمسا لا تغيب)، بحرارة شعبها، وضياء تراثها وعظمة تاريخها، إن الربيع الذى تغنى به (البحتري) يطل علينا مجددًا بأحزان الأوطان ومعاناة الشعوب ليفتح طاقات الأمل وأبواب الرجاء لمستقبل أفضل للإنسان فى كل مكان، وأقول مع العم (ماو) دع مائة زهرة تتفتح حتى نجدد الحياة ونخرج من عذابات القرون بالقيم السامية والروح النبيلة والأفكار البناءة!
جريدة الأهرام
http://www.ahram.org.eg/NewsQ/706167.aspx