إننى أدعو كل المعنيين بالشأن الوطنى بل أدعو كل المصريين إلى التركيز على دراسات المستقبل، فقد شدنا الماضى طويلًا واستنزفنا الحاضر كثيرًا ولم نعط الدراسات المستقبلية ما تستحقه من اهتمام مع أن ما نسعى إليه هو بناء المستقبل لأجيالنا القادمة، إننى أتمنى على كل مصرى أن يعى دوره وأن يذهب ببصره صوب ذلك المستقبل ليدرك أبعاده وأعماقه ويسعى حثيثًا لدراسته وبناء مقوماته، والأمر يقتضى التركيز على فهم طبيعة التطور وإدراك فلسفة التاريخ، فالدنيا تتغير والعالم يتحول، ولكل عصر رموزه ومعطياته، وعلينا أن ندرك أن جيلنا وربما جيلين بعدنا لن يشهدوا المستقبل كما هو قادم ولكن علينا أن نسعى بنية صادقة وجهد خالص من أجل بناء ذلك المستقبل الذى قد لا نعيشه لأن سنة الحياة هى أن هناك جيلًا يبنى وجيلًا يجني، وهكذا فعل الآباء والأجداد من أجلنا وهذا ما يجب أن نفعله من أجل أبنائنا وأحفادنا، إن لدينا عددًا من المطالب المحددة والشروط اللازمة لاقتحام ذلك المستقبل وبلوغ غاياته وهي:
أولًا: لقد اكتشفت الأمم وأدركت الشعوب أن عنصر (الإرادة) هو العنصر الحاكم فى توجيه المسار وتحديد الاتجاه، إذ إن الإرادة هى عنصر الاختيار الطوعى الذى تمضى به الدولة الحديثة نحو غاياتها وإذا لم تتوافر تلك الإرادة الواعية فإنه لا أمل فى المستقبل إذ تصبح القرارات السياسية مفرغة من المضمون كما تتحول المواقف إلى تراكم عفوى لا يقدم خارطة للمستقبل تتسم بالرضا العام والقبول المشترك، إن إرادة الشعوب هى التى صنعت المعجزات ورسمت معالم الطريق أمام من مضوا فيه ولا أمل للشعوب إذا لم تحزم أمرها وتجعل عنصر الإرادة فى المقدمة، ونحن هنا فى مصر نحتاج إلى هذا التوجه الذى يؤدى إلى عملية تعبئة شاملة وحشد وطنى وراء استراتيجية طويلة المدى تمضى نحو المستقبل وقد تمتد إلى منتصف هذا القرن.
ثانيًا: قد يمتلك شعب بعينه إرادة قوية وعزمًا أكيدًا ولكنه لا يملك (الرؤية) التى تتيح له تحويل تلك الإرادة إلى فعل حقيقى يحركها إلى الأمام، فالرؤية الغائبة هى نوع من فقدان البصيرة واختفاء خارطة الطريق وضياع خطة المستقبل، إن الدولة تبدو فى تلك الحالة وكأنها تتصرف بمنطق (شجاعة الجاهل) أى ذلك الذى لا تنقصه روح الإقدام ولا التصميم على الهدف ولكن تعوزه حكمة التفكير وبصيرة المستقبل، إن الإرادة والرؤية عنصران أساسيان لا تنهض الأمم إلا بهما ولا ترقى الشعوب إلا بوجودهما، ونحن فى مصر لم نملك بعد الإرادة الكاملة كما لم نملك أيضًا أدوات الرؤية فى ميادين الإنتاج والخدمات، إننا مازلنا أسرى الماضى ولم نتمكن من الزحف نحو المستقبل بإرادة شعبية وعزيمة جماعية وبصيرة وطنية تؤدى إلى رؤية شاملة، والشعوب الواعية تراجع ملفاتها وتشحذ همم أبنائها وتسعى للوقوف على أقدامها بالتعليم الجيد والثقافة العصرية والبحث العلمى الحديث وتلك كلها هى لوزام النقلة النوعية التى تسعى مصر لتحقيقها أملًا فى الخروج من النفق واجتياز عنق الزجاجة.
ثالثًا: إن العزلة عن العالم الخارجى أصبحت مفهومًا نظريًا متخلفًا بل هى حالة غير قابلة للتحقيق فى ظل الأفكار والآراء والتطورات المعاصرة، لذلك فإننا نتحدث عن عام 2050 لأننا ندرك أن تلك هى روح العصر وإشاراته الواضحة، إن الشعوب لا تبنى بمعزل عن غيرها كما أنها لا تعطى ظهرها لتجارب سبقتها وخبرات تفوقت فيها، ولم نسمع عن مجتمع بشرى نهض وحده أو دولة أقامت تجربتها التنموية بمعزل عن غيرها خصوصًا فى عصر (القرية الكونية) التى أدت إلى حالة من الاندماج الإنسانى الذى يسعى إلى تطوير وجه الحياة وابتكار أساليب جديدة للتفكير لأن الإرادة والرؤية كليهما عمودان كبيران فى المستقبل المصرى عند منتصف هذا القرن.
رابعًا: إن دولًا كثيرة فى عالمنا المعاصر أدركت أنها تفتقر إلى الموارد الطبيعية ولكنها رأت الاستعاضة عنها بالموارد البشرية المتاحة والتى تبدو فى مصر بالتحديد موردًا خصبًا لا ينضب، إذ أن (الكنانة) هى التى علمت وهندست وطببت فى مواقع متعددة من عالمها العربى وفضائها الإفريقي، ومن الطبيعى أن تسعى لأن تكون قائدة رائدة لأن عبقرية الزمان والمكان هى التى صنعت الدور المصرى ولن نعود إلى الوراء، إننى أقول ذلك بمناسبة ما يتردد حولنا من الأصدقاء والأشقاء همسًا حول تغييب دور مصر والنيل من مكانتها حتى أن كاتبًا عربيًا مسئولًا ذكر فى مقال له أنه قد يكون من الأفضل نقل مقر جامعة الدول العربية من القاهرة إلى مدينة تونس باعتبارها أصغر حجمًا وأكثر نظافة، كما أن الكثيرين يسفهون من مكانة مصر إلى حد التطاول عليها والسخرية منها، إن البعض يتصور أن مصر كيان ضخم بلا روح ومثل هذه الأراجيف تحاول الاساءة إلى مصر فى ظروف استثنائية لم يتمكن الآخرون من تحقيقها فى ظروف عادية، وقد حان الوقت الذى يجب أن يستيقظ فيه المصريون وأن يدركوا أن هناك عملية استهداف تحيط بهم من كل اتجاه لأن الكنانة كانت ولا تزال وسوف تظل مبعث حقد دفين وغيرة مكبوتة لأن الكثيرين يستكثرون ما كانت عليه.
إننا حين ننظر إلى منتصف هذا القرن فإننا نفكر فى صحوة فكرية ونهضة تعليمية وقدرة مصرية مطلوبة على التكيف مع روح العصر والمضى نحوه بثبات ورصانة وإرادة قوية ورؤية واضحة لأن بلدًا يتراجع فيه الإنتاج وتتدهور الخدمات ويتزايد السكان بشكل عشوائى هو بلد يحتاج إلى كل أسباب الرعاية والاهتمام والتفكير العميق فى المستقبل البعيد والقريب أيضًا، إن التميز العلمى والتدريب المهنى وشيوع روح الابتكار وإيجاد حلول جديدة لمشكلات قديمة هى لوازم لحركة المجتمع وبنائه وفقًا لمعطيات العصر الذى نعيش فيه، والقرن الذى نعاصره، والعالم الذى يجرى حولنا!
د. مصطفي الفقي;
جريدة الأهرام العدد 47216
تاريخ النشر: 15 مارس 2016
رابط المقالة: http://www.ahram.org.eg/NewsQ/485237.aspx