البورصة الإنسانية للحضارات المختلفة تتميز بالصعود والهبوط كما أنها ليست حكراً على أمم بذاتها أو عقليات دون غيرها
اختلط مفهوم التغريب ـــ أي الاتجاه نحو الغرب والنقل عنه ـــ بمفهوم التحديث، أي التطور نحو الأفضل، ونقل الخبرات الجديدة، وهذا الخلط مصدره أننا في هذه المنطقة من العالم عشنا نتوهم لعقود طويلة أن الغرب وحده هو نموذج النهضة ومصدر الارتقاء، وأن من يريد أن يأخذ بأسباب التقدم اقتصادياً وتقنياً، بل وربما سياسياً أيضاً، فإن عليه أن ينقل عن علوم الغرب وتجاربه باعتبارها المصدر المعتمد لكل المحاولات النهضوية والأفكار التقدمية مع ادعاء أن الشرق بأممه الكبرى وحضاراته القديمة ــــ في الصين والهند وبلاد الرافدين ومصر وغيرها ـــ هي مناطق محرومة من مقومات النهضة وأسباب الرقي، ولقد حان الوقت لكي نقول إن هذا الارتباط الشرطي بين التقدم والغرب في جانب والتخلف والشرق في جانب آخر إنما يعبر عن اتجاه تحكمي، يبدو أبعد ما يكون عن الحقيقة، فالأمم الشرقية تختزن حضارياً ما يمكن أن يكون مصدر إلهام يدفع نحو الأمام بحيث يستقر في النهاية ذلك المخزون الضخم بمفردات الفكر السياسي الحديث التي ربطت ربطاً مباشراً بين التحديث والتغريب، رغم أن كل حقائق العصر تشير بغير ذلك حتى ظهر تيار قوي يرى أن الحداثة ليست بالضرورة غربية المولد والنشأة ولكنها يمكن أن تكون أيضاً شرقية آسيوية، فالصين والهند واليابان وغيرها من أمم الشرق تختزن تراكماً طويلاً من الخبرات على نحو يجعل أسطورة الربط المتلازم بين التحديث والتغريب أمراً لا يستند إلى خبرة تاريخية مؤكدة، إننا نقول صراحة أن التحديث ليس هو التغريب بالضرورة Modernization is not always Westernization، ويبقى أمامنا أن نطرح بعض الملاحظات حول هذه القضية المحورية المهمة التي تتصل بتفسير أنماط التقدم وأساليب التحديث:
أولاً: إن الربط بين التحديث والتغريب هو إرث استعماري نجح إلى حد كبير في الترويج لأسطورة تفوق الرجل الأبيض جسدياً وفكرياً، وهو أمر يعبر عن مشاعر عنصرية تشير إلى تميز أجناس على غيرها، وكأنما نعيد إنتاج النازية في ألمانيا وأسطورة تفوق الجنس الآري من جديد، وليس صحيحاً على الإطلاق أن حضارة بعينها أو ثقافة بذاتها أو جنساً بشرياً محدداً هو الذي يقود قافلة التحديث في عالمنا المعاصر، فالحضارة الإنسانية شراكة بين أطراف متعددة من جنسيات مختلفة وأقوام متباعدة.
ثانياً: إن المخزون الحضاري لدى الأمم القديمة مثل الصين والهند وبلاد الرافدين ووادي النيل يمكن أن يكون مستودعاً لمبادرات التحديث كما يشكل رؤية عصرية مباشرة، فالأمم القديمة شيدت حضارات عظيمة حول الأنهار الكبرى، وإذا كانت قد مرت عليها عصور راكدة وأحقاب من التخلف والضعف فإن ذلك لا يعني أن "جينات" التفوق لم تعد كامنة في مستقر عميق داخل العقل الشرقي الذي لا يقل عن نظيره الغربي وربما يتجاوزه أحياناً بالميراث الثقافي الطويل والرؤية الإنسانية البعيدة، فلقد اشتهرت الصين القديمة بالمعارف والعلوم حتى أن نبي الإسلام قال حديثه الشهير (اطلبوا العلم ولو في الصين) كما أن الفراعنة قد سبقوا الدنيا كلها بالمعجزة الهندسية المتمثلة في بناء الأهرامات فضلاً عن اكتشاف أسرار الكيمياء الخاصة بعملية تحنيط الموتى من علية القوم في تلك العصور الغابرة، وهذا يدل على أن دورة التفوق الإنساني تنتقل من منطقة إلى أخرى، ومن جنس محدد إلى سواه، وليس صحيحاً أن التميز الإنساني حكرٌ على الغرب والغربيين.
ثالثاً: لقد بدأت الأمم الشرقية صحوة جديدة، وليتذكر الجميع يوم أن هزمت اليابان الآسيوية روسيا الأوروبية في مطلع القرن العشرين واحتفى الشرق يومها باستعادة زمام الأمور، وتجاوز الأمر مجرد انتصار عسكري إلى حالة معنوية عالية حتى أن الزعيم المصري مصطفى كامل أصدر كتابه عن الشمس المشرقة يحيي اليابان ويشيد بانتصارها الذي كان مفاجأة للأمم الشرقية في مواجهة تيار التغريب الكاسح الذي كان يصور للجميع ــ وربما لا يزال ــ أن التفوق هو بضاعة غربية يحتكرها الأوروبيون ونظراؤهم في العالم الجديد، لقد سقطت هذه الأسطورة وأصبح علينا أن نبحث في تاريخنا الحضاري عن أسباب التقدم ودوافع النهوض التي يمكن أن تغير موازين القوى العالمية وتعطينا ما لم نكن طرفاً حديثاً فيه.
رابعاً: إن أسطورة تفوق الرجل الأبيض إنما تستند إلى مفهوم عنصري لا يجب الأخذ به أو القياس عليه إذ إن الواقع يشير إلى أن التحضر والتفوق والتميز هي خصائص إنسانية لا تقف عند قومية معينة أو جنس بشري محدد، فالحضارات القديمة التي سادت ثم بادت قابلة للاستعادة وبث روح جديدة تؤدي إلى بعث لأفكار قديمة تصلح لأن تكون رؤى جديدة تدحض بشدة الاستسلام للنظرية القائلة بأن التحديث غربي المولد والنشأة والتطور، وذلك أمر يجافي الحقيقة ولا يتفق مع ما ذهبنا إليه عند قراءتنا للعلاقة بين الحضارات القديمة والمجتمعات الناهضة حالياً، والدليل على ذلك أن هناك مجتمعات صغيرة في آسيا وأفريقيا قد بدأت تنهض فجأة نتيجة استلهام ماضيها الطويل وخبرتها التاريخية، ولعل التجربة الفيتنامية الحالية في آسيا والتجربة الرواندية في أفريقيا هما علامتان جديدتان على أن محاولات التحديث يمكن أن تبدأ تلقائياً من دول صغيرة وأنها ليست بالضرورة حكراً على السيطرة الغربية أو العقلية الأوروبية.
خامساً: إن اقتناع الدول الآسيوية والإفريقية وربما اللاتينية أيضاً بأن لديها مخزوناً حضارياً يسمح لها بالتنقيب فيه والبحث في أعماقه علها تكتشف الجذور الحقيقية للتقدم والجينات الباقية للنهضة وذلك ما حدث في تجارب كثيرة، فهل الصين التي نراها الآن هي تلك التي اكتسحتها حرب الأفيون منذ عدة قرون؟ وهل الهند الحالية هي بلد الخزعبلات والأساطير والخرافات؟، لقد تغير الأمر تماماً وأصبحنا أمام ترسانات عقلية وقوى غربية تستحق الإشادة وتوحي بالتأمل، فالإنسان هو الإنسان في كل زمان ومكان، ولكن إرادته الذاتية هي صانعة التقدم وهي رائدة التحديث وهي التي تقوده في اتجاه نقلات نوعية كبرى تقفز به إلى الأمام، ولنتأمل مرة أخرى الغزو الاقتصادي الصيني لعالمنا المعاصر بما في ذلك الأسواق الأميركية ذاتها، وهذا تعبير عن التميز التاريخي والتفوق الكامن الذي يسقط النظرية الزائفة بأن التحديث هو التغريب ويعيد الثقة مرة أخرى إلى الأمم القديمة والحضارات الكبرى كما يعيد الكرة إلى الملعب الإنساني كله شرقه وغربه دون تميز أو إقصاء، فالكل أمام العقل البشري سواء.
لقد اكتشفت دول كثيرة أن في الاتجاه شرقاً ما يعوض عن الاعتماد على التقدم غرباً، ولعلنا نتابع الحرب الباردة الاقتصادية التي تدور بين الصين والولايات المتحدة الأميركية، بل والغرب عموماً، وتشير إلى الاقتصاديات الكبرى في العالم كما تؤكد أن العصر الأميركي المتفوق ليس هو نهاية المطاف، فالبورصة الإنسانية للحضارات المختلفة تتميز بالصعود والهبوط، كما أنها ليست حكراً على أمم بذاتها، أو عقليات دون غيرها، ولقد اتجهت دول عربية نحو الشرق وبدأت تستعيد "طريق الحرير" وتنظر صوب الصين واليابان والهند في محاولة للبناء الذاتي والتفوق المطلوب في حضارات العصر والشراكة في البناء الجديد للدولة الحديثة، ولقد أخذت مصر في السنوات الأخيرة – على سبيل المثال – توجهاً جديداً يشدها نحو الشرق وشاركت بقوة في المحاولات الجادة لاستعادة طريق الحرير كتعبير تاريخي يشير إلى المد الحضاري القادم من آسيا وإشعاع الشرق الذي ينافس أضواء الغرب ويدفع نحو التميز والارتقاء والنهضة الحديثة التي لا تربط بالضرورة بين التحديث والتغريب.
جريدة إندبندنت العربية
https://www.independentarabia.com/node/24206/%D8%A2%D8%B1%D8%A7%D8%A1/%D8%A7%D9%84%D8%AA%D8%BA%D8%B1%D9%8A%D8%A8-%D9%88%D8%A7%D9%84%D8%AA%D8%AD%D8%AF%D9%8A%D8%AB