تلقيت دعوة من الأستاذ الدكتور جابر جاد نصار رئيس جامعة القاهرة للمشاركة فى الموسم الثقافى للجامعة بمحاضرة فى قاعة الاحتفالات الكبرى العريقة، واخترت لها عنوانًا (من سنوات الفرص الضائعة إلى سنوات الفرص المقبلة) ولقد تذكرت أن نصف قرن بالتمام والكمال قد مضى على تخرجى فى جامعة القاهرة، وألحت على ذاكرتى أجواء عام 1966 عندما أنهيت دراستى فى كلية الاقتصاد والعلوم السياسية، وقد أسعدنى حضور حشد كبير من الطلاب وعدد من الأساتذة والضيوف يتقدمهم السيد عمرو موسى رئيس لجنة الخمسين التى وضعت دستور البلاد، ولقد بدأت محاضرتى التى قدمنى فيها الأستاذ الدكتور رئيس الجامعة وهو رئيس شاب نسبيًا غير تقليدى فضلًا عن أنه فقيه دستورى ومحامٍ مرموق، ولقد ذكرت فى بداية حديثى أن الدولة المصرية ذات خصائص منفردة لأنها عرفت المجتمع الزراعى مبكرًا، ولأن المجتمع الزراعى يختلف عن المجتمعات الرعوية البدائية فكان من الطبيعى أن تمتلك مصر واحدًا من أقدم النظم الإدارية فى العالم كله وذلك يفسر تضخم الجهاز الإدارى المصرى وتعقيداته، ثم أردفت قائلًا إن ذلك أدى إلى طغيان السلطة التنفيذية وتغول أذرعها فى الحياة المصرية حتى ارتبط المصريون بتلك السلطة أكثر من ارتباطهم بغيرها، ولعل ذلك يفسر تباطؤ العملية الديمقراطية فى مصر بل ضعف النظام الحزبى بشكل يبدو واضحًا فى تاريخنا الحديث، فباستثناء حزب الوفد (1919-1952) لا نكاد نعرف حزبًا انطلق من الشارع المصرى وتمتع بشعبية كاسحة مثلما هو الأمر بالنسبة لذلك الحزب، ثم أضفت بعد ذلك أن المصرى يعبر عن شخصية الفلاح وهى شخصية مستقيمة، فالمصرى دائمًا فى مفاوضاته مع الآخر يبدو فى عجلة من أمره، ويسعى حثيثًا لقبول النتائج بسرعة، ويستعجل اللحظة الحاسمة لأن ذكاءه الفطرى يصور له أنه أقدر من غيره على فهم ما يمكن تحقيقه وأنه أيضًا قادر على تحقيق الغايات فى أقصر وقت ممكن، وأضفت أن ذلك لا يتوقف على المفاوضات التجارية وحدها أو المسائل المتصلة بالاقتصاد وشروط الاقتراض ولكنه يتجاوز ذلك إلى الجانب السياسى فذكرت أن التعجل يضيع منا فرصًا فى كثير من الظروف ولكن ذلك لا يعنى أننا نفتقد المفاوضين المهرة ولكننى شرحت حقيقة مؤداها هى أن المفاوض المصرى يضع عينه على الداخل المحلى قبل أن يركز على الطرف الأجنبى فتكون النتيجة أحيانًا فى غير مصلحة مصر، ثم عرجت من ذلك إلى مفهوم الفرص الضائعة فى تاريخنا الحديث وضربت لذلك أمثلة منها ضياع فرصة إقامة أكبر مركز عالمى للتدريب المهنى والحرفى التى عرضتها علينا كوريا الجنوبية فى منتصف الثمانينيات مقابل إقامة علاقات دبلوماسية كاملة معها بعد أن أقامتها دول أخرى فى مقدمتها الصين الشعبية والاتحاد السوفيتى السابق أى لم يعد لدينا مبرر لأن نكون ملكيين أكثر من الملك ولكننا رفضنا ذلك العرض رغم الإغراء المادى المقترن به، والعجيب أننا أقمنا العلاقات الكاملة مع (سيول) دون مقابل وتلك هى مصر دائمًا والعرب عمومًا يتصورون أن الفرصة متاحة لمدة مفتوحة بينما هى مرتبطة بعامل الزمن وعنصر الوقت، ولعل القضية الفلسطينية هى أبرز نموذج لذلك ولقد استمعت إلى أبا إيبان وزير خارجية إسرائيل السابق فى محاضرة له بالنادى الدبلوماسى المصرى وهو يقول صراحة إن القضية الفلسطينية هى قضية الفرص الضائعة، ثم انتقلت فى محاضرتى إلى طلاب جامعة القاهرة للحديث عن الفرص المقبلة، وعددت بعض الإيجابيات الخارجية مثل حصول مصر على مقعد فى مجلس الأمن بأغلبية 179 صوتًا واستمرار حصولها على منصب أمين عام جامعة الدول العربية فضلًا عن استعادة دورها الإفريقى وتوازن علاقاتها الدولية والإقليمية رغم الحصار المضروب حولها، ثم قلت إننا ندرك حجم معاناة الشعب المصرى ولا نزعم أن الصورة وردية ولكن اختفت طوابير الخبز وتوقف انقطاع الكهرباء وتحسنت مظاهر الأمن الجنائى بشكل ملحوظ رغم التفجيرات والاغتيالات التى يمارسها أعداء الوطن ضد أبنائه، ثم انتقلت بعد ذلك إلى قضيتين أساسيتين هما الدين والقومية، فالدين متجذر فى أعماق مصر منذ ذهب الإسكندر الأكبر إلى معبد آمون فى سيوه ليعلن نفسه ابنًا للإله تقربًا إلى قلوب المصريين ورغبة فى إقامة إمبراطورية كبرى فى الشرق، وكذلك فعل بونابرت عندما أصدر منشوره الشهير يتملق الإسلام والمسلمين مع بداية الحملة الفرنسية على مصر.
وقد أضفت أننى أرحب بدور الدين فى المجتمع لأنه يدعو إلى الفضيلة ويقاوم أسباب الفساد والانحراف ولكننى أتحفظ تمامًا على دوره فى السياسة لأنها تسىء إليه وتلوثه، أما بالنسبة للقومية فإن قضية العروبة التى كانت طارئة فى تاريخنا الحديث كما يصور ذلك مؤرخ الجغرافيا جمال حمدان بالنسبة لنا قدر ومصير وحياة، إنها ليست رداءً نرتديه حين نريد ونخلعه متى نشاء، ثم تحدثت عن القراءة العادلة لتاريخ مصر الحديث وضرورة إعطاء كل مرحلة حقها من الموضوعية والحياد وأشرت إلى إيجابيات الأسرة العلوية خصوصًا محمد على وإبراهيم باشا والخديو إسماعيل وعباس حلمى الثانى والملك فؤاد ثم أشرت إلى مكانة عبد الناصر باعتباره قامة قومية عالية فى التاريخ العربى المعاصر وتحدثت عن السادات باعتباره ثانى رجل دولة فى تاريخ مصر الحديث بعد محمد على لأنه امتلك الرؤية والجرأة فى وقت واحد، وذكرت أنه يصعب التشكيك فى وطنية مبارك باعتباره قائدًا عسكريًا مرموقًا ولكن أحاطت به ــــ خصوصًا فى سنوات حكمه الأخيرة ـــ دوائر الفساد وقبضة الاستبداد ودعوت الشباب إلى إجراء مصالحة تاريخية بين المراحل المختلفة دون حماس لمرحلة على حساب أخري، وأنهيت محاضرتى بالحديث عن خصوصية الجيش المصرى الذى ينفرد عن جيوش العالم بانصهاره القوى فى شعبه والذى أعلنت الدوائر العسكرية الدولية المحايدة أخيرا أنه واحد من أقوى عشرة جيوش فى العالم المعاصر، وأضفت أنه الجيش الوحيد الذى لم يضرب شعبه أبدًا بل تعامل معه معاملة الابن البار بالأب الكبير، ولن أنهى هذا المقال دون التعبير عن سعادتى بحالة الاستقرار التى شهدتها فى الجامعة والاستتباب الأمنى وقارنت ذلك بما رأيته فى الجامعة نفسهامنذ عامين تقريبًا فحمدت الله وزال عنى الإحباط وداخلنى الأمل.
د. مصطفي الفقي;
جريدة الأهرام العدد 47244
تاريخ النشر: 12 أبريل 2016
رابط المقالة: http://www.ahram.org.eg/NewsQ/495490.aspx