سوف يظل السودان الشقيق أولوية فى حياة المصريين مهما تكن طبيعة العلاقات بين القاهرة والخرطوم، إذ إن الأمر المؤكد أن الدولتين تسعى كل منهما إلى الآخرى إذا تعرضت لمحنة مفاجئة أو ظروف صعبة، ونحن نتذكر ما قام به الأشقاء السودانيون غداة هزيمة يونيو 1967، وكيف احتضن (جبل الأولياء) الكلية الحربية المصرية بطلابها الذين كانوا يستعدون للثأر الوطنى وتحرير الأرض، ونتذكر أيضًا كيف استقبلت الخرطوم جمال عبد الناصر فى أغسطس بعد شهرين من الهزيمة استقبال الأبطال اعترافًا بنزاهته وتأكيدًا لمكانته ورفعًا لروحه المعنوية عندما خرج عشرات الألوف يعلنون رفض الهزيمة والإصرار على مواصلة المقاومة لتحرير الأرض وإزالة آثار العدوان، وعاد عبد الناصر من قمة الخرطوم بروح جديدة وإصرار أشد على مواصلة النضال القومى الذى جددت الجماهير العربية تفويضها له من خلال حشود الشعب السودانى صاحب الوعى السياسى والإحساس العميق بالحرية والالتزام الشديد بالتعبير عن الرأى فى أصعب الظروف وأحلك الأوقات، وهو أيضًا السودان الشقيق الذى رفض رئيسه الراحل جعفر نميرى قطع العلاقات الدبلوماسية مع مصر عقب سياسات (كامب ديفيد) ورؤية الرئيس الراحل أنور السادات لمنهج جديد فى مواجهة تطورات الصراع العربى الإسرائيلى ومواصلة إسرائيل احتلال الأرض، ومحاولة قهر الشعب الفلسطينى أم اتفاقيات فقد كان للسادات مدرسته المتميزة فى العمل السياسى وهو أمر تلقى فيه دعمًا رسميًا من السودان الشقيق فى ظل سياسة التكامل المشترك بين الدولتين التوأم، هذه الأسباب مجتمعة جعلتنى أرى أن العلاقات المصرية السودانية ترتفع دائمًا فوق الأشخاص والأحداث والمواقف، ومازلت أتذكر أيضًا ما قرأته من تعقيب للإمام المهدى الكبير عقب مصرع (جوردن) فى الخرطوم حيث قال إنه كان ينتوى احتجازه للمقايضة به فى تحرير أحمد عرابى من منفاه، هكذا كانت وشائج العلاقة الوثيقة بين قطرى وادى النيل، وقد سعدت دائمًا بصداقة متصلة مع الإمام الصادق المهدى الذى كان رئيسًا لوزراء السودان مرتين من قبل والذى مازال يحمل شعلة النضال بحيوية وقد جاوز الثمانين من عمره وهو الذى تعلم تعليمًا جيدًا فى جامعة أكسفورد وظل يتأرجح بين المناصب فى جانب والأفكار فى جانب آخر، وظل دوره متواصلًا عبر العقود، ولقد أزال تردده على القاهرة بانتظام فى سنوات سابقة جزءًا كبيرًا مما كان يطلق عليه حساسيات (الأنصار) تجاه القاهرة على اعتبار أن (الختمية) محسوبون أكثر على مصر، ولقد كان من المزايا النادرة لحركة 1989 والتضييق على الصادق المهدى أنه عرف مصر أكثر وارتبط بأشقائه فى الشمال على نحو سمح له بأن يراجع بعض أفكاره وأن يعيد حساباته السياسية خصوصًا، وأنه شخصية متميزة فهو واحد من كبار مثقفى الوطن العربي، وقد يكون ملائمًا أن أطرح - عقب ما جرى أخيرا من الإطاحة بنظام عمر البشير - بعض الملاحظات:
أولًا: إن أخشى ما يخشاه خبراء علم السياسة والباحثون فى تاريخ السودان عن كثب أن يتحول الأمر إلى إعادة إنتاج نظام البشير مرة أخري، وإن كانت الإجراءات الثورية التى اتخذتها السلطة الانتقالية توحى بغير ذلك وتؤكد أن هناك جدية فى التغيير والتطهير والاستعداد لرؤية مختلفة ونظام جديد.
ثانيًا: إن ما جرى فى السودان هو شأن داخلى بالدرجة الأولى لذلك فإننى أظن أن ما يحتاجه هو دعم الأشقاء والأصدقاء دون أجندات خاصة فى التعامل مع الوضع الجديد فى العاصمة السودانية ودون رهان على فريق ضد آخر، فالسودان كله محسوب على الجميع بطوائفه الدينية وأحزابه السياسية وقواته المسلحة التى قادت التغيير بدعم شعبى كاسح استطاع أن ينهى ثلاثين عامًا من حكم شابه الفساد والاستبداد. على نحو أدى إلى انفصال الجنوب وإهدار ثروات تلك الدولة الغنية بإمكاناتها الطبيعية ومواردها البشرية.
ثالثًا: إن العلاقة بين الشعب السودانى وقواته المسلحة هى علاقة عضوية التكوين تاريخية التأثير، ونحن نتطلع فى الشمال إلى نظام سودانى وطنى يدرك أن العلاقات الندية بين شطرى الوادى هى ضمان لاستمرارها وازدهار الآفاق أمامها. فمصر تريد سودانًا قويًا كما أن السودان من جانبه حريص على تأكيد العلاقة الأزلية بين الشعبين وإبعادها عن الخلافات السياسية خصوصًا فى هذه الظروف التى تمر فيها المنطقة بمخاض من نوع جديد تتأكد فيه إرادة الشعب السوداني، كما أن ثورات الربيع العربى ليست (أكلشيهات) بحيث إن ما ينجح فى قطر معين لابد أن ينجح فى القطر الآخر، فلكل دولة ميزاتها النسبية وظروفها الخاصة، ولا يمكن التعميم بأحكام مسبقة، وأنا على يقين من أن القادة السودانيين الجدد سوف يشرعون فى إرساء قواعد الديمقراطية وتشكيل حكومة مدنية تقود البلاد إلى الأفضل، خصوصًا وأن السودان يواجه تحديات خارجية وأخرى اقتصادية فضلًا عن تراكم المشكلات وبقاء بعض الملفات لسنوات طويلة دون معالجة.
رابعًا: إن الخروج من شرنقة الدولة الدينية يجب أن يكون هدفًا لقادة الخرطوم، فالإسلام معين لا ينضب لمن يريد أن يعرف، لكنه ليس فى الوقت ذاته خيارًا سياسيًا وحيدًا لشعب كبير عرف التعددية والتنوع منذ عشرات السنين، فليكن الدين هو المخزون الحضارى الذى نستند إليه، ولكنه ليس القانون الوضعى الذى نحكم به.
هذه خواطر رأيت أن أسوقها من موقع حبى للسودان واحترامى لشعبه وإيمانى بأن وحدة وادى النيل هى شعار لن يموت أبدًا.
جريدة الأهرام
http://www.ahram.org.eg/NewsQ/710339.aspx