لم تشهد قارة من قارات العالم عملية استنزاف متتالية مثلما هو الأمر بالنسبة للقارة الأفريقية، فقد تعاقب عليها الغزاة والطغاة عبر تاريخها الطويل، وهم الذين جاءوا يلبسون قبعات التنوير الزائفة أو مسوح التبشير المكثفة ولكن الهدف كان في النهاية استعماريًا بامتياز، فقد نجح الرجل الأبيض في اقتحام القارة العذراء ذات الأنهار الطويلة والمياه الوفيرة والأرض الخصبة، فهي قارة الاستثمارات الواعدة والفرص المتاحة، ولا تزال قصص وروايات جلب العبيد – كما كانوا يسمونها – مكبلين بالسلاسل ليُجرى نقلهم إلى العالم الجديد من الموانئ الأفريقية على المحيط ماثلة أمام العيون، وهم من تشكل منهم الوجود الأفريقي في الولايات المتحدة والكاريبي وأميركا الوسطى وغيرها من الأراضي الشاسعة والمزارع الواسعة في العالم الجديد.
لقد تحمل المواطن الأفريقي المغلوب على أمره ثمناً فادحاً للتنمية خارج قارته وبعيداً عن أرضه، وتأقلم مع أوضاعه المختلفة وعاش في حياته الجديدة ولكن (الجذور) الأفريقية ظلت دائماً تجري في دمائه وتشكل وجدانه وطريقة تفكيره، وعندما دخل رئيس من أصل أفريقي إلى البيت الأبيض استبشر الأفارقة بوصول "باراك أوباما"، وظنوا أن الرئيس القادم من أب كيني سوف يكون فتحاً مبيناً على القارة الأفريقية وشعوبها، ولكن الأمر لم يختلف كثيراً عما كان عليه، ولم تتحرك الأوضاع في اتجاه إيجابي يشير إلى أن القارة الأفريقية قد استثمرت وصول أحد أبنائها للحكم في أغنى وأقوى دولة على الأرض في عالمنا المعاصر وهي الولايات المتحدة الأميركية.
ولو استرجعنا قليلاً مسار الدور الأفريقي في عالم اليوم لوجدنا من أمره عجباً، فالقارة ذات الثروات الضخمة والإمكانات الكبيرة والموارد التي لم تستخدم بعد قد تعرضت لعملية نهب منتظم وتجريف مستمر من جانب القوى الطامعة، دخلتها بريطانيا وفرنسا تحت أعلام الاستعمار في القرنين التاسع عشر والعشرين، وسبقتهما إسبانيا والبرتغال في عصر الكشوف الجغرافية، ثم لحق بهؤلاء وأولئك المارد الصيني الذي تفتحت شهيته ليجد في وجوده المنتشر داخل القارة الأفريقية بديلاً له عن عدم مشاركته في الظاهرة الاستعمارية، ربما بحكم مبادئه أو لأنه يفضل التسلل الاقتصادي على النفوذ السياسي.
وأتذكر أنني زرت دول شرق أفريقيا عام 1970 حاملاً للحقيبة الدبلوماسية، وأدهشني على سبيل المثال في الليلتين اللتين قضيتهما في "دار السلام" عاصمة "تنزانيا" حينذاك أن الوجود الصيني كان ظاهراً في الشوارع والحوانيت ووسائل المواصلات، ويومها عرفت أن الصين تبني في كل دولة أفريقية مبنى يعبر عن الصداقة، أو تترك مشروعاً يرمز إليها حتى أصبح الوجود الصيني من الانتشار والتغلغل ما يجعلنا نقول إن الصين تلك الدولة الضخمة، وهي أكبر دول العالم سكاناً تعتبر ذات ارتباط متجذر وقوي وعميق بعدد من دول القارة في أنحائها المختلفة في وقت اقترن فيه ذلك بظهور دولة جنوب أفريقيا كقوة اقتصادية وتكنولوجية متميزة في أنحاء القارة خصوصاً عندما انتهت سياسية (الأبر تايت) وسقطت الشعارات العنصرية وأصبحت دولة جنوب أفريقيا – بعد صراعات طويلة دامية – جزءاً من الكيان الأفريقي القائم.
وكان من الطبيعي أن توجد الهند أيضاً خصوصاً أن المحيط الهندي هو معبر لها ومجرى مائي يصل إلى سواحل شرق أفريقيا، وقد حدث ذلك بالفعل فكان وجودهم في شرق القارة بل وفي غربها أيضًا له تأثير ملحوظ على التركيبة السكانية وطبيعة النشاط الاقتصادي في تلك الدول.
ولعلنا نتذكر أن "المهاتما غاندي" العظيم، وهو عملاق آسيا الأول، قد عاش جزءاً من حياته يعمل بالمحاماة في جنوب أفريقيا، ذلك البلد الذي أنجب "مانديلا" العظيم الآخر، عملاق أفريقيا الكبير.
ولقد نشط التجار الهنود في أنحاء القارة الأفريقية شرقها وغربها وحققوا نجاحات هائلة جعلتهم جزءاً لا يتجزأ من التركيبة السكانية في بعض الدول الأفريقية نتيجة اختلاط الدماء والتزاوج المشترك عبر السنين، ورغم ذلك ظلت بريطانيا وفرنسا تحافظان بشدة على المستعمرات التابعة لهما في القارة، ولعلنا نتذكر ضراوة حرب التحرير الجزائرية حيث انتزع الجزائريون في النهاية استقلالهم عن فرنسا برغم التمسك الشديد للأنظمة الفرنسية المتعاقبة بالوجود في الجزائر، ولولا زعامة "شارل ديغول" العملاق الأوروبي الكبير ما استسلم الفرنسيون للواقع ولما سلموا باستقلال الجزائر الأفريقية العربية المسلمة، كما ظلت مناطق نفوذ إسبانيا والبرتغال موجودة في غرب القارة شاهداً على تاريخ طويل من التبعية تحت مظلة التأثير الثقافي وانتشار اللغتين الإسبانية والبرتغالية في بعض البيوت التي قد تمثلها دولة "أنغولا" الأفريقية أكثر من غيرها.
ولم يقف الأمر عند هذا الحد فقد تهافت على القارة الأفريقية مستعمرون ومبشرون ومغامرون من دول أوروبا المختلفة ومن الأميركتين وكندا حتى دخلت الولايات المتحدة الأميركية السباق المحموم بقوة وجسارة وتمكنت من بسط وجودها الاستراتيجي، وزار بعض الرؤساء الأميركيين دول القارة ووقف "باراك أوباما" يقول إن الولايات المتحدة الأميركية ملتزمة بضمان أمن إثيوبيا وكينيا وغيرهما من دول القارة إيذاناً رسمياً بالوجود الأميركي في أفريقيا ومحاولة إيجاد مناطق نفوذ ذات طابع اقتصادي وعسكري.
وبدأت حمى إنشاء القواعد العسكرية في بعض المواقع الاستراتيجية بالقارة حتى أنني دهشت أخيراً عندما علمت أن اليابان استأجرت قاعدة عسكرية في دولة جيبوتي الأفريقية التي تتمتع بموقع جغرافي استراتيجي متميز، ولقد هبطت القارة قوى أخرى نتذكر منها إيران بالمد الشيعي تحت مظلة الثورة، وتركيا بالنفوذ التاريخي الذي أرادت له أن يبدأ بمدينة "سواكن" في شرق السودان، فالكل متحمس وليس هناك من يغفو أو ينام إلا المواطن الأفريقي الذي تجري عملية استنزاف ثرواته ونهب موارده وحشد الوعود في ذهنه من جانب الزوار من مختلف الأقطار، ولعل ذلك يقودنا إلى التفكير في ملاحظتين:
أولاً: إن القارة الأفريقية هي واحدة من قارات العالم القديم، وربما كانت بداية النشأة للجنس البشري من فوق أرضها كما يقول بعض أساتذة علم الأجناس، كذلك شاركت القارة في الحروب، ولعلنا نتذكر الفيلق الأفريقي وما دار حوله في الحرب العالمية الثانية بين دول المحور وجيوش الحلفاء، إننا إذاً أمام قارة مظلومة انتهك حريتها الرجل الأبيض وربما الأصفر أيضاً وذلك يقودنا إلى إيقاع حركات التحرر التي عرفتها في النصف الثاني من القرن العشرين وقادتها الثورة المصرية من الركن الشمالي الشرقي للقارة، وفي ظل زعامات لرؤساء من أمثال "عبد الناصر" و"نكروما" و"سيكوتوري" و"نيريري" و"سنغور" وغيرهم من الوجوه المشرقة لهذه القارة التي كانت تبدو قديماً وكأنها جزءٌ من بحر الظلمات تحوم حولها الأساطير ويتحدث عنها الأجانب بشيء من الإثارة والفضول والطمع أيضاً.
ثانياً: إن القارة الأفريقية أصبحت تملك حالياً مقومات سياسية في ظل الاتحاد الأفريقي فضلاً عن دور دولي مشهود يجعلها أحياناً أحد الأرقام الصعبة في المعادلة الدولية الراهنة، وقد أضحى الجميع يقيمون حساباً للرجل الأفريقي في كل المجالات ولكننا لم ننجح نحن العرب حتى الآن في فك اشتباك تاريخي مغلوط يتهمنا بالمشاركة في تجارة النخاسة وتصدير الشباب الأفريقي إلى الجانب الآخر من المحيط الأطلنطي، إنها ذكريات أليمة غرسها الاستعمار الغربي في ذهن بعض الأفارقة ليدق إسفيناً بينهم وبين أشقائهم العرب وهو أمر يحتاج منا إلى جهد طويل وعمل دائب ونوايا طيبة.
هذه هي القارة الأفريقية بما لها وما عليها، والتي كانت سنداً لنا في المحافل الدولية والمنظمات العالمية رغم التسلل الإسرائيلي المستمر في ربوع القارة منذ خمسينيات القرن العشرين.
جريدة إندبندنت العربية
https://www.independentarabia.com/node/31561/آراء/أفريقيا-والتكالب-الدولي