سوف تظل السياسة الإقليمية لتركيا مثار جدل دائمًا، فالأتراك يعيشون مع الماضى ويرفضونه فى ذات الوقت وهم يرفعون رايات الإسلام وهم يستخدمونه سياسيًا فقط، ويريدون أن يقودوا الشرق الأوسط ولا يعتبرون أنفسهم جزءًا منه، ويتطلعون إلى الاتحاد الأوروبى ولكنهم يدركون أن الأمر أصبح صعب المنال!، وفى ظنى أن التحليل الأدق لسياسة الدولة التركية فى السنوات الأخيرة يجب أن يفرق بين «أردوغان» وتوجهاته وبين الشعب التركى بكافة أعراقه وطوائفه وفئاته، ولقد رأينا دائمًا أن السياسة التركية- كالعهد بها دائمًا عبر التاريخ- تتسم بشىء من الجفاء والغلظة، وتتوهم أحيانًا أنها مازالت تقود المنطقة العربية والبلقان والجمهوريات الإسلامية الآسيوية وتسيطر على المضايق وتعاند الدب الروسى عند اللزوم، وتغازل واشنطن بغير انقطاع، فهى دولة عضو فى حلف الأطلنطى وذات أهمية استراتيجية للغرب، كما أنها حليف صامت لإسرائيل وند دائم مع إيران وجار طامع فى غرب سوريا وشمال العراق، كما أن لديها أجندة سياسية تعادى الأكراد وتستفز العرب وتجعل من الإسلام ساترًا للعمل من أجل إحياء الروح العثمانية والتبشير بقيادة أنقرة للعالم الإسلامى كله، ولقد قيل إن «الخومينى» قال فى الطائرة أثناء عودته من باريس إلى مطار «مهرآباد» فى طهران: إن العرب قد حكموا المسلمين عدة قرون، ثم تلاهم الأتراك لعدة قرون أخرى، وجاء الدور على إيران لكى تقود هى العالم الإسلامى على طريق الثورة، وإن صحت هذه العبارة،
أم كانت من وحى خيال من نقلها، إلا أن الاعتراف بحكم الأتراك للعالم الإسلامى عدة قرون هو أمر لا مراء فيه ولا جدال حوله، بل إننا نعتبر أن سقوط مصر تحت وطأة الحكم العثمانى كان بداية لسنوات الظلم والظلام والقهر والتخلف، وربما عانى الشوام سياسيًا من جيرانهم أكثر منا، فلازالت لمشانق جمال باشا فى دمشق ذكرى مؤلمة فى أعماق العقل السورى حتى الآن، كما أن مصر قد مثلت للأتراك ندًا قويًا عندما دكت سنابك خيل إبراهيم باشا، ابن محمد على هضبة الأناضول، ولولا تحالف الدول الغربية وتوقيع اتفاقية لندن عام 1840 ما توقفت قوات جيش محمد على عن الفتوحات التى طالت أجزاء واسعة من منابع النيل وشرق إفريقيا إلى ساحل البحر الأحمر حتى مدن الشام الكبرى، وهو أمر لا ينساه الأتراك، ولا أظنهم سوف يفعلون، وربما كان ذلك المخزون الأليم لدى المصريين تجاه غطرسة الحكم التركى هو الذى دفع الرئيس عبد الناصر إلى طرد السفير التركى من دار الأوبرا نتيجة تعليقاته السلبية على الثورة المصرية فى بدايتها، وبالتحديد قانون الإصلاح الزراعى، وانتهى طرده من الحفل بقطع العلاقات بين البلدين لسنوات طويلة نتيجة اختلاف السياسات، حيث كانت تركيا عضوًا فى الحلف المركزى الذى كان يحمل اسم حلف بغداد، بينما كانت ترى مصر فى ذلك خطرًا على استقرار المنطقة وأمن دولها،
وتحاول تركيا حاليًا أن تقدم ذاتها باعتبارها دولة ناهضة وقوية، وفى رأينا أن أردوغان قد حصد جهود سابقيه، خصوصًا «تورجوت أوزال»، وكان نجاحه كمحافظ فى إسطنبول نموذجًا دفع المواطن التركى إلى تأييده والتصويت له، ولكننى أعود فأقول إن أردوغان ليس هو كل تركيا، ولذلك فإن العداء بين مصر وبلاده إنما ينصب أساسًا على مواقفه هو المعادية لمصر ونظامها السياسى وأوضاعها الداخلية بسبب سوء تقديره للسياسات فى المنطقة وللدور الحقيقى لمصر تحديدًا، إن الذى يتابع السياسة التركية فى السنوات الأخيرة، خصوصًا تجاه الأزمة السورية فى جانب وإسقاط حكم الإخوان فى مصر فى جانب آخر، يجعلنا ندرك بما لا يترك مجالًا للشك أن الشهية التركية أصبحت مفتوحة على المنطقة، ولأنها أخفقت أن تكون فى ذيل أوروبا فإن حلمها هو أن تكون فى طليعة دول الشرق الأوسط، ولكن يبدو أن ذلك أمر صعب المنال فى ظل أيديولوجية لا تملك إلا التطاول على الغير وانتقاد سياساته دون أن تقدم نموذجًا سياسيًا مقبولًا لدول الجوار.. إنها أزمة الأتراك، ومشكلة العرب، وإحدى مآسى الشرق الأوسط.
جريدة المصري اليوم
https://www.almasryalyoum.com/news/details/1409643