عندما قامت ثورات الربيع العربى كانت بعيدة فى معظمها عن الشعارات المتصلة بالسياسة الخارجية، ولم نسمع وقتها أن ثوار تونس أو مصر أو ليبيا أو غيرها قد جعلوا القضية الفلسطينية واحدة من المطالب التى تهتف بها الجماهير، بل انصرفت كل تلك الثورات الشعبية إلى الواقع الداخلى وركزت على غياب العدالة الاجتماعية وتفشى البطالة وشيوع الفساد وعنف قبضة الاستبداد، ولقد لفتت هذه الملاحظة تحديدًا نظر كثير من المتابعين والخبراء المهتمين بالشأن العربى فى مجمله وتساءل كثيرون إذا كان التيار الإسلامى أحد مكونات الشارع العربى فلماذا غابت عنه القضية الفلسطينية وهو الذى ظل يتحدث عنها منذ عام 1948 حتى وصول الإخوان المسلمين إلى السلطة عام 2012، وتأكد لكثير من المراقبين أن القضية الفلسطينية كانت لهم فقط مثل (قميص عثمان) يرتدونه حين يشاءون ويخلعونه حين يريدون، وقد كانت دهشتنا بالغة فى ذلك الوقت عندما وجدنا أن أكثر من 70% ممن أجابوا على هذا السؤال قالوا إنها القضية الفلسطينية التى ضحت من أجلها مصر ـــ حربًا وسلامًا ـــ لأكثر من سبعة عقود ودفعت بالشهداء والأموال على اعتبار أن القضية الفلسطينية قضية مصرية أيضًا، وظلت تلك القضية شعارًا يتقدم سواه لعشرات السنين ولكن مفاجأة الربيع العربى هى تراجع زخم القضية الفلسطينية بحيث سبقتها شعارات المعاناة الداخلية والبحث عن رغيف الخبز والعدالة الاجتماعية والحرية حتى كانت المفاجأة على لسان الرئيس المصرى عبد الفتاح السيسى التى حاول بها إعطاء (قبلة الحياة) للقضية التى أصبحت شاحبة وكأنها فى حالة (كمون شتوي) بعد شهور الخريف العربى حتى انصرفت عنها الأضواء وغابت المحاولات الجادة لإحياء الأمل فى استئناف مسيرة السلام فى الشرق الأوسط ووضع نهاية عادلة للنزاع العربى الإسرائيلي، وعندما تحدث الرئيس السيسى عن تفكيره فى السعى لإتمام المصالحة الفلسطينية - الفلسطينية ثم المضى بعد ذلك فى تحقيق التسوية الفلسطينية الإسرائيلية وفقًا للثوابت المتفق عليها تمسكًا بحدود 4 يونيو وإقامة دولة فلسطينية عاصمتها القدس، عندما أعلن الرئيس المصرى ذلك استقبلته الدوائر المختلفة بالاهتمام والترحيب على الجانبين الفلسطينى والإسرائيلى وزار القاهرة بعدها مباشرة وزير خارجية الولايات المتحدة الأمريكية (جون كيري) وأصبحت مبادرة الرئيس المصرى هى حديث الدوائر الدبلوماسية فى العواصم المعنية واختلفت حولها التفسيرات وكثرت التأويلات خصوصًا أن أخبارها طغت على أخبار المبادرة الفرنسية التى سبقتها بأيام، ووقفت مصر موقفها المعتاد الذى يقوم على احترام سعى الاخرين نحو السلام وأعلنت دعمها للمبادرة الفرنسية على اعتبار أن ما ذكره الرئيس السيسى يصب فى خانة الهدف الواحد والغاية المشتركة، ويهمنى هنا أن أسجل الملاحظات الآتية:
أولًا: إن مصر بتكوينها الحضارى وتراثها التاريخى دولة تتفاعل فى كل الأزمنة مع ما حولها وتمارس دورًا إقليميًا مؤثرًا عبر مراحل التاريخ المختلفة وهى دولة فريدة فى شخصيتها ليست الأكثر ثراءً ولكنها الأعرق وجودًا وحضارة حيث ينظر إليها الجميع ويتطلعون إلى رأى القاهرة عند الأزمات والمشكلات والخلافات، إننى أتذكر ــــ بهذه المناسبة ــــ أثناء عملى فى مؤسسة الرئاسة أن اتصل بى سفير الهند فى القاهرة يوم غزو صدام حسين للكويت وقال لى السفير إن بلاده طلبت منه التعرف بسرعة على موقف القاهرة من الغزو العراقى للكويت لأنه على ضوء الموقف المصرى سوف يمضى معه الموقف الهندى فى نفس الاتجاه ثقة فى القاهرة واحترامًا لدورها الإقليمي، وكنت دائمًا من دعاة اشتباك مصر سياسيًا مع كافة القوى الإقليمية الفاعلة وضرورة إحياء دورها الحيوى فى إقليمها الجغرافى ومحيطها السياسى، لذلك جاءت دعوة السيسى الأخيرة إحياءً لتلك الروح ولتكون رسالة مفتوحة للجميع مؤداها أن مصر لا تتخلى عن مسئولياتها القومية وفى مقدمتها القضية الفلسطينية.
ثانيًا: عندما تحدث الرئيس السيسى عن الدور المصرى المنتظر فى المصالحة الفلسطينية وتسوية النزاع العربى الإسرائيلى أدركت أن الخيال السياسى الذى غاب طويلًا عن ساحة العمل الوطنى قد أطل من جديد ليحيى الدور المصرى وليقول للجميع إن مكانة مصر ليست معطاة تاريخية صماء ولكنها تفاعل حيوى عبر العصور يعطى لمصر مكانتها ويضعها فى المكان اللائق بها، إن دعوة السيسى تؤكد الدور الأبوى المصرى للقضية الفلسطينية وأن مصر التى كانت قائدة فى الحرب ورائدة فى السلام وحاضنة فى كل الظروف مازالت على العهد بها تطل على المنطقة – برغم كل ظروفها والمراحل الصعبة التى عبرتها – بدورها الجديد الذى أدى غيابه لعدة عقود إلى حالة من الانقسام العربى والتفكك القومي.
ثالثًا: إن تصريح الرئيس السيسى هو محاولة ذكية لكسر الحلقة الشريرة التى تحيط بمصر وإشارة إلى الذين يحاولون تطويق مصر من كل اتجاه فإنهم يحرثون فى البحر وأن مصر ماضية فى طريقها معتزة بذاتها مستقرة فى أعماقها وهى أيضًا رسالة لمن يستثمرون ظروف مصر الداخلية حتى يدركوا أن مصر عصية على الوقوع رافضة للانكفاء وأنها قادرة على أخذ زمام المبادرة إذا أرادت ومتصدرة للمشهد إذا شاءت.
رابعًا: إن الموقف المصرى الجديد – حتى وإن لم تظهر له نتائج سريعة – هو رسالة إلى (واشنطن) وحلفائها بأن مصر تستطيع كسر الحلقة التى يحاولون تطويقها بها، وأنها قادرة على المضى فى طريق تستعيد به قيادتها وتمارس معه دورها الذى فرضته الجغرافيا وصنعه التاريخ فى سبيكة حضارية فريدة لا نكاد نجد لها نظيرًا.
خامسًا: لقد رأى كثير من المراقبين فى تصريحات الرئيس السيسى تدعيمًا لمكانته وتعزيزًا لقيادته بعد مضى عامين من وصوله إلى المنصب الأول فى البلاد ورأوا فيه أيضًا استعدادًا للخروج إلى مسرح الأحداث العربية بشرف وكبرياء حتى يدرك الجميع أن مصر لا يعزلها أحد مهما تكالب الأعداء وتكاثر حولها الخصوم وتضخمت أمامها الأحقاد.
د. مصطفي الفقي;
جريدة الأهرام العدد 47300
تاريخ النشر: 7 يونيو 2016
رابط المقالة: http://www.ahram.org.eg/NewsQ/522975.aspx