عندما كنتُ أعمل مع الرئيس الأسبق (مبارك) تحدَّد لى موعدٌ فى مدينة (الإسماعيلية) للقائه، وتأخَّرتُ فى الطريق -لأسباب خارجة عن إرادتى- لما يقرب من أربعين دقيقة، وهو أمرٌ ضايق الرئيس الأسبق كثيرًا؛ شأنه شأن كل العسكريين الذين لا يتساهلون فى مسألة الالتزام بالمواعيد، فأبدى تبرُّمًا شديدًا، وقاطعنى لعدَّة أسابيع كنت أتعامل معه أثناءها على الورق فقط، ولكنه لا يُهاتفنى، وأنا أترك له كل مساءٍ مُلخَّصًا بما أراه ضروريًّا، وهو على الجانب الآخر يبعث لى بالتكليفات من خلال تأشيرات مكتوبة.
وبعد أسبوعين من ذلك اتَّصل بى قائلاً: «إن الدكتور (أسامة الباز) المستشار السياسى للرئيس، ومعه اللواء (محمد عبدالسلام المحجوب)، الرجل الثانى فى المخابرات العامة، سوف يذهبان لمقابلة القائد (معمر القذافى)، ورأيت أن أرسلك معهما عقابًا على تأخيرك فى موعد (الإسماعيلية)».
مازال الوزير الأسبق محمد عبدالسلام المحجوب يُذكِّرنى بهذه الواقعة من طرائف الأسفار الرئاسية، وكأنما كانت عقوبة الرئيس الأسبق مبارك لى مزدوجةً
وكانت الرحلة شاقَّةً للغاية، إذ إن (ليبيا) كانت تحت الحصار الجوى والبرى، وحتى قطع غيار الطائرات كانت (الولايات المتحدة الأمريكية) قد منعت وصولها إثر التحقيقات فى كارثة (لوكربى) التى اتَّهمت فيها (واشنطن) نظام (القذافى) بإسقاط طائرة أمريكية فوق أراضى المملكة المتحدة، حيث راح فيها مئات الضحايا، وكان الطريق إلى (ليبيا) فى ذلك الوقت مُعقَّدًا، إذ نأخذ طائرة من (القاهرة) إلى (المنطقة العسكرية الغربية)، ومن هناك نعبر الحدود بالسيارات لنأخذ طائرة ليبية، ثم تبدأ مهمة البحث عن القائد، فقد نتَّجه إلى (سرت) أو إلى (مصراتة)، أو إلى (طرابلس) أو غيرها، وهى أماكن لا يُعلن عن وجوده فيها إلا عندما نتحرَّك من المحطة الأخيرة للوصول إليه.
ووصلنا بعد يوم كامل من السفر مُرهقين تمامًا، واستقبلنا القائد فى خيمته الشهيرة، ونقل إليه الدكتور (أسامة الباز) رسالةً من الرئيس الأسبق (مبارك)، وظل القذافى يحكى لأكثر من ساعتين واللواء (محمد عبدالسلام المحجوب) يُناقشه فى بعض المسائل المتصلة بالحصار الأمريكى، وأزمة (لوكربى).
وبعد انتهاء المباحثات تناولنا الغداء بدعوة من العقيد، وقبل أن ننصرف فوجئنا به يقول؛ موجِّهًا حديثه للدكتور (أسامة الباز)، واللواء (محمد عبدالسلام المحجوب): «أنتما جرى حصولكما من قبل على ختم الإرهاب لوجود كل منكما فى صورة فوتوغرافية مُستقلَّة معى، أما (مصطفى الفقى) فلم يحصل عليها بعد، وهذه مناسبة لكى يأخذ صورة معى، وبذلك يكون قد حصل على ختم الإرهاب، الذى لم يحصل عليه من قبل)».
وقام العقيد، ودعانى إلى أخذ صورة معه وحدنا وهو يُبدى سعادةً بالغةً لأنه وَصَمَ مسئولاً جديدًا بختم الإرهاب -كما كان يُسمِّيه- ومازال الوزير الأسبق (محمد عبدالسلام المحجوب) يُذكِّرنى بهذه الواقعة من طرائف الأسفار الرئاسية، وكأنما كانت عقوبة الرئيس الأسبق (مبارك) مزدوجةً بالرحلة المُرهقة أولاً، ثم بختمالإرهاب ثانيًا.
وفى ظنى أن القائد الليبى كان يستمتع بالسُّخرية الدائمة من الغرب والأمريكيين، خصوصًا لأنه لا ينسى الضربة التى وجَّهها له الطيران الأمريكى فى أبريل عام 1986، ودمَّر فيها جزءًا من مقر العقيد فى (باب العزيزية)، والواقع أن علاقته بـ(الولايات المتحدة الأمريكية) كانت علاقةً شديدة العداء والتوتُّر، وعندما انتهى من مشروع (النهر العظيم) كان ذلك مثار تندُّر؛ لأن نفقاته كانت باهظةً، وعائده محدودًا.
وقد كانت خُطب العقيد دائمًا مثار دهشة للعبارات التى كان يستخدمها، والأفكار الغريبة التى يطرحها، ولا ننسى خطابه أمام الجمعية العامة، حيث قذف بميثاق المنظمة إلى رئيس الجمعية العامة، وكان هو السياسى والدبلوماسى الليبى الراحل (على التريكى)، ولقد ورَّطته أزمة (لوكربى) فى دفع تعويضات هائلة بمبالغ طائلة لضحايا الطائرة، ولكنه فى سنواته الأخيرة، خصوصًا بعد إعدام (صدَّام حسين)، بدأ يعتدل نسبيًّا فى سياسته، وفتح أبواب الدولة الليبية لأجهزة التفتيش الغربى بحثًا عن أسلحة نووية، أو أى أسلحة أخرى من أسلحة الدمار الشامل، ولكن تيار (ثورات الربيع العربى) جرفه فى اتجاه آخر لم يكن يتوقعه، وهو الذى أدَّى إلى نهايته بعد نحو أربعين عامًا من حُكم بلاده لم يسمح فيها بصوت واحد يعلو عليه، بل واعتمد تصفية خصومه، بدءًا من (عمر المحيشى)، وصولاً إلى (منصور الكيخيا)، رحم الله الجميع!
د. مصطفى الفقى;
مجلة 7 أيام العدد 228
تاريخ النشر: 31 مايو 2017
رابط المقالة: https://www.7-ayam.com/%d8%a7%d9%84%d9%82%d8%b0%d8%a7%d9%81%d9%89-%d9%88%d8%ae%d8%aa%d9%85-%d8%a7%d9%84%d8%a5%d8%b1%d9%87%d8%a7%d8%a8/