منذ أثار الرئيس عبد الفتاح السيسى فى خطاب له بعد توليه سلطة الحكم فى البلاد مسألة تجديد الخطاب الدينى توالت الكتابات وتعددت الآراء حول هذه القضية المعقدة التى تمثل قنطرة بين الدين والحياة، بين الجانب الروحى للدين وسلوكيات المسلمين، وفى ظنى أن القضية ربما تكون أوسع من ذلك بكثير إذ لن يتحقق لنا بلوغ تلك الغاية وتحقيق ذلك الهدف دون المضى فى سلسلة طويلة من الإجراءات التنظيمية والأفكار الإصلاحية، وإذا كان الأمر كذلك فإنه يقتضى منا مناقشة واسعة تنطلق من معطيات التعليم الدينى فى مصر وتطوراته وتأثيراته على الحياة والمجتمع، دعنا نتأمل النقاط التالية:
أولًا : إن التعليم الدينى فى مصر قد تضخم حجمًا ولكنه انخفض نوعًا، فلم تعد كفاءة الداعية ولا إمكاناته العلمية والثقافية قادرة على مواجهة ظروف العصر ومشكلاته، ولقد أفزعنى أن جامعة الأزهر وحدها تضم أكثر من 600 ألف طالب وأن لديها أكثر من 75 كلية فى أنحاء الجمهورية، والملاحظ هنا أنه برغم هذا العدد الضخم فإن القدرة على مواكبة روح العصر وأفكاره وتحدياته والتصدى للغة التشدد والغلو والتعصب وما وراءها من عنف وإرهاب تبدو غائبة لأن التعليم الدينى لا زال تقليديًا برغم كل محاولات التحديث وجهود الائمة الكبار وعلى رأسهم الإمام الطيب شيخ الأزهر.
ثانيًا: دعنا نناقش فى تجرد وموضوعية السلم الهرمى للتعليم الأزهري، فالطالب يلتحق به حتى الثانوية الأزهرية ثم يتجه المتفوقون والمتميزون إلى الكليات العلمية من طب وهندسة وصيدلة وعلوم وغيرها ويبقى أولئك الذين لم يحصلوا على مجموع يؤهلهم لتلك الكليات فيتجهون إلى التعليم الدينى وكأن كليات الأزهر الشريف الأصلية أصبحت تستقبل غالبًا بقايا الحاصلين على الثانوية الأزهرية، وبذلك انخفضت تلقائيًا المستويات العلمية لتلك الكليات التقليدية والتى كانت ثلاثًا هى أصول الدين والشريعة واللغة العربية منذ تنظيم عام 1928فى المشيخة الأولى للإمام الراحل محمد مصطفى المراغى والتى أضيفت إليها بعض الكليات الجديدة مثل الدراسات والدعوة واللغات والترجمة، وذلك لأننا فى جامعة الأزهر نستهين بالغرض الأساسى لهذه الجامعة وهو التعليم الدينى ونجعله دون أن نشعر فى الدرجة الثانية بينما هو الهدف الأسمى والغاية التى لا يجب أن تعلو عليها غاية أخرى ثم نتباكى بعد ذلك على انخفاض مستوى معظم الخريجين وفقر قدراتهم الفكرية وانخفاض درجة إلمامهم بالمعارف العامة والعلوم الحديثة بينما كانت كليات الأزهر التقليدية هى درة التعليم الإسلامى فى العالم كله.
ثالثًا: والحال كذلك فإننى أكثر اصرارًا من أى وقت مضى على ما طرحته فى العقدين الأخيرين من مطالبة ملحة بتقسيم جامعة الأزهر بين الكليات الدينية وهى جوهر الدراسة فى الأزهر الشريف على امتداد العالم الإسلامى كله والتى يقابلها الكليات الإكليريكية ومعاهد الدراسات اللاهوتية فى العالم المسيحي، بحيث يتاح لنا إعطاء الكليات الدينية كل الاهتمام والرعاية تحت مسمى جامعة الأزهر ويصبح الخريجون قادرين على مواجهة أمراض العصر التى تتستر بالدين ولا تعرف صحيح الإسلام الحنيف ومبادئه النبيلة وروحه السامية وحتى نخرج من أزمة التعليم الدينى التى دخلنا فيها منذ سنوات، ويؤسفنى أن أقول أننى عندما أرتاد بعض المساجد أجد أن الائمة يخطئون أخطاءً فى خطبة الجمعة خصوصًا فى الجانب اللغوى الذى يتسم لديهم بالضعف. فأين هؤلاء من علمائنا الكبار وأئمتنا العظام! أما الكليات العلمية فإننى أقترح فصلها تحت مسمى الجامعة الإسلامية وتقبل طلاب الثانوية العامة ويكون للأزهر الشريف إشراف دينى على مقرر واحد فيها يدرسه المتقدمون إليها ـــ مسلمين ومسيحيين ـــ فالتعليم كالماء والهواء كما قال عبقرى الأزهر عميد الأدب العربى د.طه حسين منذ عشرات السنين، وبينما تكون الدراسة فى جامعة الأزهر بكلياتها الدينية العريقة قاصرة على الحاصلين على الثانوية الأزهرية فإن القبول فى الجامعة الإسلامية يكون متاحًا للمسلمين والأقباط شريطة قبولهم بدراسة مقرر مستمر حول التاريخ الإسلامى وتراثه فى خدمة العلم والإنسانية ويكون لجامعة الأزهر إشراف على ذلك المقرر الذى يمضى بالتوازى مع العلوم الحديثة فى كلياتها المتخصصة .. صدقونى إن فك الاشتباك بين كليات العلوم الشرعية والكليات المدنية فى جامعة الأزهر حاليًا له عائده على أمرين أولهما عودة قيمة الداعية الإسلامى إلى مكانته التاريخية اللائقة وثانيهما تحول الجامعة الإسلامية المقترحة إلى منبر عصرى يفتح أبوابه لكل الدارسين دون النظر لدياناتهم أسوة بالجامعة الملية الإسلامية فى الهند.
رابعًا: إن الزعيم الراحل عبد الناصر عندما أصدر قانون الأزهر بشكله الحالى كان يسعى لوجود الداعية الإسلامى المتخصص فى علوم الدنيا حتى يتمكن من مواجهة الحملات التبشيرية التى غزت إفريقيا فى القرن الأخير ولكن ذلك الهدف لم يتحقق وأثبتت التجارب أن العنف والإرهاب أشد خطرًا على الإسلام من دخول الوثنيين فى ديانة سماوية أخري، فالإرهاب داء العصر الذى ينخر كالسوس فى جسد الإسلام الحنيف ويشوه صورته ويعبث بمكانته وهو ما يستدعى بالضرورة ظهور الداعية الأزهرى المتمكن من الأفكار النقلية والحجج العقلية والذى يتحدث فى ذات الوقت بلغة أجنبية هذا ما نريده من أجل رفعة الإسلام وعودة عصوره الزاهرة لذلك فإن الفصل بين جناحى جامعة الأزهر الحالية هو تعزيز للإسلام وعلومه واحترام للأزهر وتاريخه مع تفرغ قياداته للدعوة الإسلامية المطلوبة بدلًا من الانصراف لمواجهة كم هائل من الأعباء الإدارية والتنظيمية فى فروع متخصصة لا يكون علماء الأزهر العظام بالضرورة متفرغين لها أو معنيين بها.
خامسًا: إذا كنا نتحدث عن مبادرة السيد رئيس الجمهورية نحو تحرير الخطاب الدينى وإطلاقه لخدمة الدين والمجتمع معًا ولدرء المخاطر عن العالم الإسلامى وشعوبه فإن الخطوة التى اقترحناها منذ سنوات تظل بداية مطلوبة للدخول فى مضمون الخطاب الدينى وجوهره وفحواه فلا تجديد للخطاب الدينى بغير داعية متمكن ومستنير ومؤثر.
يعلم الله فى هذا الشهر الكريم أن هدفى من هذه السطور هو خدمة الإسلام والمسلمين وتحسين صورتهما أمام الدنيا فى وقت أطبق فيه الإرهاب على الدول والشعوب وغابت روح التسامح وظهرت نوايا خبيثة تسعى للنيل من التعاليم الدينية الصحيحة والروح الإسلامية السمحاء.. وللمؤمن أجران إن أصاب وأجر واحد إن أخطأ فقد حاول ولكن جانبه الصواب!
د. مصطفي الفقي;
جريدة الأهرام العدد 47314
تاريخ النشر: 21 يونيو 2016
رابط المقالة: http://www.ahram.org.eg/NewsQ/531446.aspx