أتعرّض اليوم لموضوع شائك، وأعنى به الصلة بين مصر الدولة واليهود المصريين الذين برحوها فى مناسبات مختلفة ولم يبقَ منهم إلا عدد لا يزيد عن أصابع اليد الواحدة، تتقدمهم السيدة «ماجدة شحاتة هارون»، وهى ابنة مناضل مصرى يهودى ارتبط بوطنه فى ظل كل الظروف الصعبة التى مرت بالعلاقات العربية الإسرائيلية، لأن الرجل فصل تمامًا بين ديانته ووطنيته، والذى ذكرنى بذلك أننى تلقيت اتصالًا يدعونى إلى حضور احتفالية فى معبد «موسى بن ميمون» على شرف «أندرى أزولاى»، المستشار اليهودى الأسبق لملك المغرب، والذى تشغل ابنته منصب مدير عام منظمة اليونسكو، بعد أن كانت وزيرة للثقافة فى فرنسا، ولم أتحمس كثيرًا لقبول الدعوة، رغم أن «أزولاى» معروف بدماثة الخلق وحُسن المعشر إلا أنى آثرت السلامة حتى لا أزج بالمؤسسة التى أشرف بإدارتها فى موضع القيل والقال، فضلًا عن أننى لم أنتزع بعد ذلك الشعور الغريب الذى يعتادنى كلما تذكرت ما فعلته إسرائيل، رغم أن هناك اختلافًا كبيرًا بينها وبين المزاج العام ليهود العالم، ثم شاءت الظروف أن أشاهد فيلم الممر عن حرب الاستنزاف، فازداد يقينى بأن جيلى يحترم اليهودية كديانة، ولكنه مازال ينتظر من إسرائيل الكثير لتمحو من أعماقه ما ترسب فيها من ذكريات، وفتشت حولى فوجدت أن المصريين لم يكرهوا اليهود يومًا ولكنهم رفضوا سياسات إسرائيل دائمًا، والذين لا يعرفون أن القاهرة وحدها تضم أكثر من اثنى عشر معبدًا يهوديًا صالحة لإقامة الشعائر اليهودية وأنه لم يمسسها أحد بسوء، لا فى 1948، ولا فى 1956، ولا 1967، ولا 1973، ولا ما بينها من أحداث جسام فى العلاقات العربية الإسرائيلية. إن الذى يعرف ذلك يدرك أن اليهود المصريين عاشوا فى وطنهم دون مشكلات تُذكر، ومارسوا شعائر دينهم بلا قيود، حتى إن الحاخام اليهودى شارك فى الأعمال التحضيرية لدستور عام 1923، كما تولى «قطاوى باشا»، اليهودى المصرى، وزارة المالية فى عشرينيات القرن الماضى، ولذلك فإن المصريين هم آخر شعب يُتهم بعداء السامية أو كراهية اليهود، ومازلنا نتذكر بعض المحال الكبرى فى القاهرة التى كانت تستثمر رؤوس أموال يهودية فى حرية وانطلاق، بل وشعبية داخل السوق المصرية، كذلك نتذكر أيضًا أن اليهود المصريين قد اكتسبوا سمعة طيبة فى ميادين الاقتصاد والمال والبنوك وأيضًا فى الطب وتجارة المجوهرات، إلى أن بدأت الحركة الصهيونية تعبث بالمنطقة وتُحيل أجواءها إلى صدام كبير باعتمادها لسياسة عنصرية توسعية استيطانية مع عدوان دائم على الشعب الفلسطينى والأرض العربية، ولابد أن أعترف بأنى قد شاهدت شخصيًا حالة التعلق الشديد التى يحملها بعض اليهود المصريين تجاه وطنهم، ومازلت أذكر من عملى فى بداية سبعينيات القرن الماضى فى القنصلية المصرية بلندن، وكيف كان صاحب الفندق فى منطقة «بايزووتر»، الذى يتعامل معه المصريون والعرب، هو يهودى مصرى، وقد قال لى ذات مرة: إن أغلى أحلام حياتى هو أن ألبس نظارة سوداء وأتمشى فى شوارع مدينة الزقازيق، حيث كان أبى يعيش لكى أتعرف على مدارج الطفولة، وأكتشف المكان الذى ولدت فيه وقضيت سنواتى الأولى على أرضه. والغريب أنه عندما رحل عن عالمنا أوصى بأن يُحرق جثمانه وأن يُنثر رماده على مياه النيل، ولذلك فإننى أقول إننا جميعًا بشر، نستوى فى المشاعر والنوازع والغايات ولكن الصراع سُنة الحياة والصدام بين البشر أمر لا مناص منه، لأن الوجود قام على كثير من الأضداد التى لا يبرأ منها أحد.
هذه خواطر أثارتها لدى تلك الدعوة التى لم تتم، والفيلم الذى لم يتوقف، مع شعور بأننا لم نتمكن فى مصر من توظيف الجالية اليهودية التى عاشت بيننا فى القاهرة والإسكندرية ومدن الدلتا من أجل خلق لوبى يستطيع التأثير فى السياسات الأمريكية، وبالتبعية فى المواقف الإسرائيلية تجاه أكبر دولة عربية كانت بحق هى القائدة فى الحرب والرائدة فى السلام، واكتشفت كذلك أن الإيرانيين على سبيل المثال قد نجحوا فى استخدام امتداد الجالية اليهودية لديهم والموجودة فى المدن الأمريكية، بل وفى إسرائيل ذاتها لخدمة أهداف السياسة الخارجية الإيرانية وإحداث التهدئة عند اللزوم للحيلولة دون تلقى ضربة أمريكية أو إسرائيلية، رغم أن إيران بارعة فى جر المنطقة إلى حافة الهاوية، ثم العودة بها إلى ما كانت عليه عند اللزوم. إننا يجب أن نبحث فى كل من يرتبط بالتراب المصرى خارج حدودنا لنجعل منه سفيرًا لحضارة التسامح، وملتقى الثقافات، وصانعة الحضارات.. مصر أم الأوطان.
جريدة المصري اليوم
https://www.almasryalyoum.com/news/details/1411366