من الأمور المحيرة في فهم آليات نظم الحكم ما يتردد عن أن التلازم بين ازدهار الديمقراطية وتنامي ظاهرة الرأي العام ليس أمرًا صحيحًا فما أكثر الدول الديمقراطية التي لايبدو لديها صوت مرتفع لرأي عام صاخب، وما أكثر الدول التي تعاني من خفوت نغمة التحول الديمقراطي ومع ذلك تتمتع برأي عام عالي الصوت شديد التأثير صاخب الفعل، ونحن في مصر نبدو نموذجًا غريبًا في هذا السياق إذ أن تاريخنا الحديث يشير إلى وجود رأي عام واضحٍ وقوي ومسموع لدى الجميع ومنتشر التداول – حتى قبل عصر التقدم التكنولوجي في وسائل الاتصال – ولقد ظل هذا الرأي العام المصري شديد التأثير في المنطقة كلها بحكم قوة الآلة الإعلامية من جانب والحجم السكاني من جانب آخر، وفي فترات الركود الديمقراطي في العقود الأخيرة لم يصمت الرأي العام ولم يتراجع بل إن غياب الديقمراطية أحيانًا يؤدي إلى بروز ظاهرة الرأي العام وانتشار أصدائه بشكل ملفت، ولنا في هذا الأمر عدد من التعليقات:
أولًا: لو أخذنا الحقبة الناصرية ـــ كمثال ـــ حيث ضعفت نسبيًا مؤسسات التحول الديمقراطي نتيجة إلغاء الأحزاب السياسية وقولبة عدد من آليات العمل العام فسوف نكتشف أن الزعامة الضخمة لجمال عبد الناصر قد كانت بديلًا لديه عن الشكل الديمقراطي المعتاد، وتصور الكثيرون أن شعبيته الكاسحة تعفيه من الالتزام الحرفي ببناء المؤسسات الديمقراطية التقليدية، ورغم أن قبضة الدولة كانت قوية في عهده إلا أن الرأي العام كان أيضًا قويًا وفاعلًا وظهرت له أدوات جديدة في مقدمتها (النكتة السياسية) ثم (الشائعة المتعمدة) فضلًا عن أن الشعب المصري بطبيعته شعب ساخر حتى من نفسه إذا لزم الأمر.
ثانيًا: إن التلازم بين الديمقراطية والرأي العام أمر رائع إذا تحقق ولكن ما نشهده في كثير من مناطق العالم المعاصر لا يوحي بتلك الفرضية المريحة، فالرأي العام هو ابن شرعي للثرثرة اليومية وادعاء المعرفة، وأنا أتذكر أنه بعد هزيمة يونيو عام 1967 تحول نصف المصريين إلى خبراء عسكريين يتحدثون فيما لا يعلمون ويتوقعون ما لا يفهمون، كما أن نصف الشعب المصري أيضًا تحول إلى نشطاء سياسيين بعد ثورة 25 يناير 2011 وتوهم الكثيرون أن المرور على ميدان التحرير يعطي صاحبه صكًا وطنيًا لا يسقط عنه أبدًا وهذه كلها أحكام جائرة وتأويلات غريبة، كما أن التعويل على الادعاء بأن هناك من يفهم في كل الأمور ويدرك جوهر كل القضايا هو أمر مردود عليه سلبًا لأن لكل مواطن حرفته أو مهنته أو طريقته الخاصة في التفكير ولا يمكن التعميم على الآخرين تلقائيًا أو جزافيًا.
ثالثًا: إن إسهام مؤسسات التعليم والثقافة والإعلام في صناعة الرأي العام وتكوين المواقف الجماعية بل وتشكيل الرأي العام الجمعي هي أمور لا يمكن القفز عليها، بل إنني أضيف إلى ذلك أن المؤسسة الدينية تستأثر وحدها بشرائح واسعة من مكونات الرأي العام تجاه عدد كبير من القضايا لأن الدين متجذر في أعماق المصريين كما أن هناك شعورًا أبويًا بالولاية الدينية للمصريين على سواهم وحساسية شديدة تجاه المساس بالمسائل الدينية في مصر مع جرأة غير مسبوقة لكثير من أنصاف المتعلمين الذين يقتحمون ميدان الإفتاء ولا يتورعون عن إبداء الآراء وكأنهم رسل من السماء.
رابعًا: إن الدولة الحديثة في الغرب تعتمد على أدوات قياس علمية لظاهرة الرأي العام ويكون لديها دائمًا معاهد متخصصة لقياس تطورات تلك الظاهرة، أما نحن هنا فإن الأمر ليس بالدقة التي وصل إليها من سبقونا في الغرب ومع ذلك لو أنك طرحت قضية ما فإننا نستطيع القول بعد يوم واحد أين تقف كل القوى السياسية من حدث معين وذلك نتيجة تناثر الآراء وضجيج التعليقات فضلًا عن سوء التأويل وتلك كلها خصائص مصرية لا نستطيع تجاوزها.
خامسًا: إن الرأي العام القوي قد يعطل أحيانًا مسيرة الديمقراطية ويبدو وكأنه بديل لها، وتلك خدعة سياسية لا نكاد نجد لها تبريرًا بين نظم الحكم المعاصرة إلا استخدامها كمخدر مؤقت لتجميد حركة التطور وتعطيل مسيرة المشاركة السياسية، ونحن نحمد الله كمصريين أن ظاهرة الرأي العام في بلدنا هي دائمًا قوية ومؤثرة بل وجاذبة لكثير من القادمين من خارج البلاد أو حتى المقيمين فيها لأننا شعب يهوى تبادل المعلومات ونشر الشائعات مع شعور عميق بالإثارة دون التأكد من أهمية أو جدوى ما نقول.
سادسًا: إن قادة الرأي العام هم بالضرورة نجوم المجتمع الذين يقتدي بهم الناس خصوصًا الشرائح العمرية الشابة، ولذلك فإننا نلاحظ أن الشباب هو القطاع الأكبر الذي يتحمل عبء تكوين الرأي العام وتشكيل ملامحه وقبول بعض معطياته ورفض البعض الآخر منه، ونحن نظن أن الرأي العام لا يعبر عن ظاهرة أفقية بل عن منظومة هرمية تسري من خلالها الأخبار وتتدفق عبرها المعلومات ولكن قد تغيب الحقائق.
سابعًا: إن المجتمعات النامية والتي لم تقطع شوطًا في ميدان الصناعة ولكنها ظلت حبيسة النشاط الزراعي مع صناعات بدائية فإننا لا نتوقع للرأي العام ازدهارًا لأنه اقترن تاريخيًا بنمو المجتمعات الصناعية وتعاقب أدوار التقدم فيها وظل على الدوام مرتبطًا بالتجمعات البشرية كالعمال والطلاب واضعين في الاعتبار تأثير المصالح الفئوية في تكوين الرأي العام وتحديد مساره.
هذه ملاحظات رأينا تدوينها حول العلاقة الجدلية بين الديمقراطية والرأي العام والاقتراب بينهما أحيانًا والابتعاد بينهما غالبًا، فالتلازم ليس حتميًا خصوصًا في مجتمعات تنتشر فيها الأمية ولا تزدهر لديها الديمقراطية ومع ذلك تبدو حصيلة الرأي العام قوية ومؤثرة وقد تكون مصر واحدة من النماذج الملهمة في هذا السياق.
نشر المقال في جريدة الأهرام بتاريخ 6 أغسطس 2019.