قضيت أسبوعًا كاملًا فى العاصمة الروسية فى زيارة هى الرابعة لى منذ الزيارة الأولى عام 1989، وأتذكر وقتها كيف أن المبانى الضخمة قد بهرتنى وأن الشوارع الواسعة قد أدهشتني، فالمدينة فريدة فى طرازها وعظمة بنيانها، ولقد كانت صورة الشعب الروسى فى ذهنى قبل الزيارة الأولى مجسدة فى سيدة روسية بدينة تقود سيارة لورى ضخمة للمشاركة فى مشروع كبير ولكن الصورة الآن تغيرت تمامًا إذ تبدو ملامح التغيير سياسيًا واقتصاديًا واجتماعيًا على النحو التالي:
أولًا: إن وصول فلاديمير بوتين إلى قمة السلطة بعد أن كان مديرًا لمحطة برلين للمخابرات الروسية KGBومحاولته استعادة مكانة روسيا الاتحادية متجاوزًا كافة العقبات وكل الأزمات بإرادة عنيدة وسياسة جريئة وفتح مواجهة جديدة مع الولايات المتحدة الأمريكية ومع الغرب عمومًا حاول بها أن يستعيد مكانة روسيا فى محيطها الإقليمى كما جعل مفتاح حل الأزمة السورية فى يده وأجبر الأتراك على الاعتذار العلنى وقام بتغييرات جذرية فى المكون السياسى والاقتصادى للدولة الروسية على نحو يدعو إلى الإعجاب، ولابد أن نعترف هنا أن جزءًا كبيرًا من أسباب نجاحه يعود إلى أن روسيا دولة يصعب حصارها فهى تحوز ما يقرب من 40% من الموارد الطبيعية فى العالم ولديها تنوع جغرافى وتعدد بشرى بحكم مساحتها الشاسعة على امتداد القارتين الآسيوية والأوروبية بالإضافة إلى تاريخ خشن خصوصًا فى الحربين العالميتين الأولى والثانية فضلًا عن دور الاتحاد السوفيتى السابق فى الحرب الباردة.
ثانيًا: لقد شاهدت فى موسكو فروعًا لأرقى بيوت الأزياء فى العالم مع أفخر المطاعم وأرقى المقاهى فضلًا عن عراقة التراث وفخامة المبانى وروعة المتاحف، ولقد شاهدت الشباب من الجنسين وهم يرتدون ثيابًا تعكس أحدث ما وصلت إليه الموضة الغربية وذلك أمر لم يكن له وجود فى ثمانينيات القرن الماضى.
ثالثًا: لقد بهرنى مسجد موسكو كما لم يبهرنى مسجد آخر فى مدينة أخرى لا لضخامته وروعة بنائه وجمال مآذنه وقبابه ولكن أيضًا لسلامة التنظيم فى مداخله ومخارجه والإحكام الأمنى الذى يجعل الصلاة خالصة لوجه الله ورأيت وجوها من القوميات الآسيوية المختلفة من (شيشان) و(تتر) بل ومن ذوى الأصول الأفغانية والإيرانية والتركية واعتبرتها نقطة مضيئة فى حكم بوتين الذى افتتح ذلك المسجد منذ شهور قليلة، والمعروف أن الرئيس الروسى ارثوذكسى متدين لذلك فإننى أتوقع صلات أقوى بين الكنيستين الروسية والمصرية فى المستقبل بحكم التقارب المذهبي، ولقد تذكرت قصة مبعوث القيصر الروسى الذى التقى بابا الأقباط (بطرس الجاولي) فى بدايات القرن التاسع عشر وعرض عليه أن يبسط القيصر الروسى حمايته على أقباط مصر، فرد عليه البابا الوطنى الزاهد قائلًا له: (إن القيصر يعيش ويموت أما نحن ففى حماية الحى الذى لا يموت) فى إشارة إلى الرب الذى نعبده جميعًا.
رابعًا: إن قسوة المناخ فى روسيا قد علمتهم الاستعانة بالألوان الفاقعة والصور الزاهية والمنحوتات الجميلة ليكسروا حدة البرودة، ولقد ذهبت بالقطار إلى سان بطرسبرج (لينينجراد فى الدولة السوفيتية) وذلك بهدف زيارة واحد من أهم وأعظم متاحف العالم وهو (الأرميتاج ) ورغم أننى كنت قد كونت صورة رائعة من قراءاتى عنه إلا أن مشاهدتى له فاقت كل خيال، فالمبنى رائع والموقع متميز والقاعات فسيحة واللوحات نادرة فهو أرقى متاحف تاريخ الفن فى العالم وأكثرها ثراءً وقيمة، وحمدت الله أن الثورة البلشفية والنظام الروسى كانا من الحكمة أنهما حافظا على هذه المتاحف وعلى مبنى (الكرملين) المتألق فى وسط العاصمة وآمنت أن اختلاف النظم السياسية لا يجب ان يؤدى إلى العبث بالتراث الثقافى.
خامسًا: لقد زرت كاتدرائية موسكو الكبرى ووجدت فيها فخامة وروعة وهى تقف على الجانب الآخر من المسجد الكبير فى العاصمة الروسية وآمنت مرة أخرى بأن التعايش المشترك هو السبيل الأوحد لاستمرار الحياة وتألق الوجود، وأدركت أن روسيا الاتحادية التى تضم قوميات مختلفة وأعراقا متباينة وديانات متعددة سوف تبقى دولة قوية منيعة مهما كانت التحديات والمخاطر والأزمات.
سادسًا: إن الشراكة المصرية الروسية فى الستين عامًا الأخيرة ـــ برغم موجات الصعود والهبوط ـــ تمثل رمزًا للتعاون بين البلدين فى النواحى الاقتصادية والفنية دون قيود سياسية، ولنتذكر دائمًا أن الروس قد وقفوا إلى جانب مصر فى مراحل مختلفة من تاريخ العلاقة بين البلدين وفى ظل النظام الشيوعى وغير الشيوعي، فالصداقة بين المصريين والروس كانت وسوف تبقى قوية لا يؤثر فيها تفجير طائرة ركاب مدنية!
سابعًا: إن ما أقوله لا يعنى أن (الكرملين) تسكنه الملائكة بل إننى قرأت أن روسيا تحتفظ بصداقة قوية مع إسرائيل وتنسيق سياسى وعسكرى منتظم معها بل إن الضربات الجوية التى استهدف بها الطيران الروسى قواعد المقاومة السورية وبعض مراكز تنظيم داعش الإرهابية قد تمت كلها بالتنسيق بين موسكو وتل أبيب حتى أن هناك شائعة تتردد حول تعيين ليبرمان وزيرًا للخارجية الإسرائيلية وهو روسى الأصل كمجاملة من نتنياهو لبوتين ودعمًا للصداقة بينهما.
إن المشاهد التى عبرت أمامها فى زيارتى الأخيرة لروسيا تؤكد لى أننا أمام دولة متماسكة عصية على الحصار يقودها حاكم قوى يحظى بشعبية واسعة.
د. مصطفي الفقي;
جريدة الأهرام العدد 47356
تاريخ النشر: 2 أغسطس 2016
رابط المقالة: http://www.ahram.org.eg/NewsQ/540789.aspx