أثار التوجه المصرى الجاد تجاه إفريقيا بعضًا من ذكريات مطوية حول القارة الأم التى لم أتشرف بالعمل فى إحدى عواصمها ولكنى زرت معظمها إما حاملًا للحقيبة الدبلوماسية فى مستهل حياتى بوزارة الخارجية وإما مرافقًا للرئيس الأسبق «مبارك» فى زياراته، وأتذكر أننى رافقته سنويًا فى تسع زيارات متتالية للعاصمة الإثيوبية لحضور مؤتمرات القمة الإفريقية، وشعرت دائمًا أن الأفارقة هم سند لمصر وأنهم يتذكرون دورها ولا يجحدون فضلها.
وما زلت أتذكر عندما زارنا وزير شؤون رئاسة الجمهورية المختص بالملف الإفريقى فى العصر الناصرى السيد «محمد فايق»- أطال الله فى عمره- وحاضرنا فى كلية الاقتصاد والعلوم السياسية فى منتصف ستينيات القرن الماضى حول الاهتمام المصرى بالقارة فى عصر الزعيم الراحل، وكيف أنه وجّه مصانع النسيج المصرية لإنتاج أقمشة ذات رسومات كبيرة من تلك التى تتفق مع الذوق الإفريقى اهتمامًا بالعلاقات الوثيقة بين مصر ودول القارة التى ساندتها القاهرة عندما دعمت حركات التحرر وناصرت أصحاب قضايا الاستقلال والمطلب العادل للحرية وحق تقرير المصير، ثم قفز إلى ذهنى مشهد آخر لا أنساه أبدًا حيث كنت أسكن فى ضاحية «سان جونز وود» بـ«لندن» وكان مسكنى فى مبنى شركة «فولكس فاجن» حيث كانت الشركة تحتل الدور الأرضى بينما بقية الشقق فى الدورين الثانى والثالث مؤجرة لخليط من الإنجليز وجنسيات أخرى مختلفة.
وذات يوم توجهت إلى الدور الأرضى لأطلب منهم عمل الخدمة الدورية لسيارتى «الباسات»- حينذاك- وجلست فى استراحة خدمة العملاء لأجد أمامى وجهًا إفريقيًا مألوفًا وتذكرت على الفور أنه يشبه تمامًا الرئيس النيجيرى الذى خلعه انقلاب قبل ذلك بعدة شهور، فابتسمت له وتقدمت منه وقلت له: سيدى إنك تشبه الرئيس النيجيرى السابق «يعقوب جوون»، فرد قائلًا: «أنا الجنرال جوون»، وتجاذبنا أطراف الحديث وعلمت منه أنه يدرس فى إحدى الجامعات البريطانية دراسات عليا وأنه قد طوى صفحة الماضى بعد أن كان رئيسًا لأكبر دولة إفريقية لعدة سنوات، وأضاف أنه ولد مسلمًا وأن اسم أخته هو «فاطمة» ولكن الإرساليات التبشيرية فى بلاده قد نجحت فى تحويل الأسرة إلى المسيحية، وقد أعطاه ذلك فرصة للوصول إلى قمة السلطة فى بلاده لأنها تكاد تكون دورية بين أتباع الديانتين الإسلام وهو دين الغالبية والمسيحية وهى دين ما يصل إلى ثلاثين فى المائة من السكان، وعندما انتهينا من التعامل مع قسم خدمة العملاء فى شركة «فولكس فاجن» التى كان يقتنى هو الآخر سيارة من إنتاجها وبدأ العمل فى الخدمة الدورية فيها فقلت له: سيدى الرئيس إننى أسكن فى الطابق الأعلى من هذا المبنى فهل تمانع فى قبول دعوتى على فنجان شاى فى بيت مصرى؟ فرحب كثيرًا وقضى فى منزلى ساعة نتحدث فيها عن ذكرياته فى الرئاسة وعلاقاته برؤساء مصر، وقد كنا فى عصر الرئيس الراحل أنور السادات، ثم أضاف قائلًا: إن آفة إفريقيا فى المستقبل ستكون الانقلابات العسكرية التى حذرت منها لأنها محاولة للإطاحة بالقيادات الإفريقية لصالح شخصيات ليست بالضرورة ذات انتماء وطنى، وقد تكون ذات ارتباطات خارجية، وتبادلنا أرقام الهواتف وانصرف ولم أره بعدها، والطريف فى الأمر أننى كتبت محضرًا بالمقابلة وسلمته للسفير المصرى الذى أعمل معه وتصورت أن المسؤولين فى وزارة الخارجية سوف يقدرون هذه الصدفة ويهتمون بالتواصل مع ذلك الزعيم الإفريقى الذى كانت لديه فى ذلك الوقت بقايا شعبية كبيرة وكان الكثيرون يرون أن دوره السياسى لم ينته تمامًا، ولكن وزارة الخارجية أبرقت للسفير تطلب منه عدم إجراء مثل هذه المقابلات غير المتكافئة لأنها قد تسبب ضررًا للسياسة الخارجية المصرية مع قلة المتوقع منها إيجابيًا على سياسة مصر الإفريقية، وما أكثر الصفحات المطوية التى تمر بخاطرى بين حين وآخر لكى توقظ لدىّ ذكريات دفينة وصفحات مطوية قد يكون النبش فيها وإعادة قراءتها موحيًا بتصورات مختلفة وأدوار متجددة.
جريدة المصري اليوم
https://www.almasryalyoum.com/news/details/1419678