أثار قرار الدولة المصرية إنشاء عاصمة جديدة اهتمامًا مصريًا وعربيًا وعالميًا فكتب كثير من المفكرين والخبراء حول تأثير العاصمة الجديدة إيجابيًا على العاصمة التاريخية لمصر القاهرة، ولقد كتب مؤخرًا الشاعر الكبير والمفكر المتألق فاروق جويدة أكثر من مقال حول هذا الموضوع لأنه يتمنى - ونتمنى معه جميعًا – أن يكون إنشاء العاصمة الجديدة مدعاة لمزيد من الاهتمام بالعاصمة التاريخية وليس العكس خصوصًا وأن القاهرة ليست مجرد مدينة ولكنها تعبير عن تراكم حضاري وتميز عمراني لا نكاد نجد له نظيرًا بين المدائن في عالمنا المعاصر، فلقد كانت تستهويني روما - ولا تزال - وأراها متحفًا كبيرًا لحضارة الرومان بل وثقافات البحر المتوسط كما أنني أحسب أن الإسكندرية كان يمكن أن تكون شيئًا من ذلك بحكم تاريخها وقدم نشأتها وارتباط قيامها بالإسكندر الأكبر الفاتح المقدوني الذي أراد أن يقيم إمبراطورية كبرى تصل إلى بلاد فارس وتنطلق من الإسكندرية، ولقد سمعت الرئيس اليوناني وهو يقول إننا لا نعتبر الإسكندرية مدينة مصرية فقط ولكننا نعتبرها أيضًا من أهم مدن الإغريق، إلا أن القاهرة تبقى في النهاية بتطورها تحت المسميات المختلفة إلى أن وضع لبنتها الأولى القائد جوهر الصقلي وقد جاء من منطقة تقع في دولة كرواتيا حاليًا وبغض النظر عن الأسطورة التي تقول أن نجمًا في السماء قد عبر تحت مسمى القاهر فسميت القاهرة إلا أنني أرى أن التسمية تحمل معنًا أكبر وأعظم فهي قاهرة الغزاة وقاهرة الطغاة وقاهرة البغاة، وتتميز القاهرة بنسيج مشترك من أحقاب تاريخية متعددة فيها المعابد اليهودية والكنائس المسيحية والمآذن الإسلامية تفوح من شوارعها رائحة التاريخ وتزدهر في أروقتها نفحات من عصور مختلفة مع تجليات تعكس أنماطًا بشرية قل أن يوجد مثيل لها في عاصمة أخرى، إن فيها آثارًا إسلامية لا نظير لها في عالمنا المعاصر، وفيها عمارة فاطمية لا توجد إلا على أرضها، وفيها مبانٍ مملوكية ونماذج تركية ثم تأتي القاهرة الخديوية تتويجًا لقاهرة الخديوي إسماعيل وما بعده والتي تضاهي تمامًا مثيلاتها في أرقى دول أوروبا، فهل يضحي المصريون بكل هذه الكنوز الرائعة التي يخترقها النهر الخالد وتقع على مشارفها أهرام الجيزة، إنها مدينة فيها شوارع هي متاحف مستقلة بدءًا من ميدان الأديان حيث يوجد مسجد عمرو بن العاص والكنيسة المعلقة والمعبد اليهودي مرورًا بشارع المعز الذي يبدو متحفًا مستقلًا تشير مآذنه وقبابه إلى روعة المعمار وجمال الرونق وعظمة التاريخ، وما أكثر بيوتها القديمة التي يزيد عمر كل منها عن خمسمائة عام وقد تصل إلى سبعة قرون، وأنا شخصيًا منذ أن توليت مسئولية إدارة مكتبة الإسكندرية أشعر بارتياح شديد إذا ما دخلت بيت السناري في قلب العاصمة وغير بعيد عن مسجد الطاهرة أم هاشم لأنني أرى أن التاريخ يكاد يطل علينا من طاقات المبنى ومشربيات أدواره لتذكرنا بروعة المكان وجلال ذلك الزمان، فإذا ما طاف المرء بأضرحة أهل البيت ممن لاذوا بمصر طلبًا للأمان مع نهايات القرن الأول الهجري فإننا نصافح الحسين شهيدًا والسيدة نفيسة صوفية من أعلى درجات أهل البيت فضلًا عن مقام السيدة زينب والسيدة عائشة وغيرهم من سبط بيت النبوة العظيم، أما عن القصور فحدث ولا حرج بدءًا من قصر عابدين إلى قصر القبة إلى قصور الأمراء المتناثرة في أحياء القاهرة، ولا أريد أن أنكأ جراحًا بالإشارة إلى العبث الذي مارسناه في العقود السبع الأخيرة من إهمال لهذه القصور حيث طالتها يد الإهمال مع قسوة تاريخية في إحالة بعضها إلى هيئات خدمية دون رعاية أو حنو أو وعي فلم يبرأ من ذلك إلا القصور التي ورثتها رئاسة الجمهورية أو مؤسسة القوات المسلحة، ولا زلت أتذكر في مطلع حياتي الدبلوماسية أننا كنا نذهب إلى قصر عابدين للتطعيم ضد الأمراض إذا كانت الرحلة إلى إفريقيا في ذلك الزمان البعيد فلم نحترم تراثنا ولم نقدر تاريخنا وامتد العبث والإهمال ليضع القبح بديلًا للجمال، ولقد طفت بالعاصمة الجديدة مؤخرًا وهالني عظمة ما فيها كما أن مروري بالساحل الشمالي جعلني أشهد مدينة سوف تضاهي مدينة دبي أو تزيد وأعني بها مدينة العلمين، وأنا شخصيًا أبارك هذه الحركة العمرانية العظيمة ولكنني أرجو أيضًا أن يكون هناك تطلع لتفريغ القاهرة من وزارات ومؤسسات وشركات ومكاتب حتى تستريح تلك المدينة التاريخية الضخمة وتتجه على طريق الإصلاح الحقيقي الذي يجعل منها المدينة التاريخية الأولى في الشرق الأوسط وإفريقيا بل وبين مدن البحر المتوسط، وهنا أحلم مرة أخرى للإسكندرية للخروج من عثرتها واستعادة تألقها عروسًا للبحر المتوسط وذلك رغم ضيق الرقعة التي لا تسمح غالبًا بامتداد عمراني يليق بها فضلًا عن ضرورة المحافظة على بعض الأبنية القليلة الباقية من تراثها المعماري الذي عصفت به فوضى الهدم وشراهة البناء، فقيام العاصمة الجديدة يجب أن يكون حافزًا للعودة إلى الذوق العام في البناء والتوقف عن الأبنية غير كاملة التشطيب، وأنا أعلم أن ذلك كله مرهون بظروفنا الاقتصادية ولكنني لاحظت بارتياح شديد أن المشروعات التي تقيمها القوات المسلحة في السنوات الأخيرة تتميز بمسحة جمال مع حرص شديد على المتانة بل والفخامة أحيانًا.
يا قاهرة الغزاة والطغاة والبغاة سوف يسعى أولادك إلى استعادة شبابك وإحياء أمجادك حتى تتألق العاصمة الجديدة إلى جانب العاصمة التاريخية تأكيدًا لثقافة المصريين وتراكم حضاراتهم وعظمة تاريخهم.
نُشر المقال بجريدة الأهرام بتاريخ 20 أغسطس 2019