كنا نتصور دائمًا أننا بلد الفرص الضائعة، ولكننا نضيف إلى ذلك أننا أحياناً بلد إهدار الثروة البشرية، رغم أنها رصيدنا الحقيقى قبل الموارد الطبيعية، أقول ذلك بعد أن رأيت صورة ضخمة للأثرى المصرى العالمى «زاهى حواس» فى (تايم سكوير) بمدينة نيويورك الأمريكية، مرتديًا قبعته الشهيرة، ومحاطًا بعبارات التكريم وكلمات الثناء، إعلانًا عن مناسبة ترتبط به، ولقد أدركت على الفور أننا مقصرون فى حق الوطن، عاجزون عن تحقيق الاستخدام الأمثل لما لدينا من ثروات بشرية وطبيعية، وسألت نفسى: أليس الأجدى بنا أن نجعل من «زاهى حواس»، بشهرته الدولية الواسعة واسمه الكبير، مبعوثًا للثقافة والتراث والسياحة مجتمعة فى مصر بلد وادى الملوك العظام وكنوز توت عنخ آمون الذهبية والآثار الرائعة والمواقع السياحية الفريدة؟، لو أننا فعلنا ذلك لكانت قيمتنا أعلى بكثير مما نراها، ولكننا متخصصون فى تجريف الكفاءات أحيانًا وإهدار الخبرات دون اكتراث أو اهتمام، وكأنما كتب الله علينا أن يدرك أهمية ما لدينا أولئك الذين لا ينتمون لنا، ولكن يحسنون الحديث عنا ويرون عن بعد ما فى أيدينا من جواهر وما نفرط فيه من أيقونات بشرية فى كافة التخصصات ومختلف المجالات، وقد حان الوقت لكى نراجع إمكاناتنا الحقيقية فى عهد نسعى فيه إلى بناء دولة مصرية ناهضة تقوم على الأسلوب العلمى فى التفكير والإفادة من المتاح فى التنفيذ، ولقد لاحظت دائمًا أننا نسعى أحيانًا نحو متوسطى القدرات، مع الابتعاد عن اختيار النماذج الأكثر كفاءة والأبعد خبرة، وهو أمر كلفنا كثيرًا على امتداد السنين، وبمناسبة الفرص الضائعة فلازلت أذكر أن كوريا الجنوبية قد عرضت علينا، فى منتصف ثمانينيات القرن الماضى، الشراكة فى مشروع وطنى ضخم للتدريب المهنى على مساحة كبيرة فى أحد المواقع الصحراوية المناسبة، وكان يمكن أن يؤدى ذلك إلى امتصاص البطالة ورفع كفاءة الحرفيين فى مصر، مع القدرة على تصدير تلك العمالة والإفادة منها، خصوصًا أن المصرى مقبول عمومًا لدى أشقائه العرب والأفارقة، وها نحن اليوم لا نعى قيمة شخصية عالمية مثل «زاهى حواس» ونتعامل معه كما لو كنا نتحدث عن أحد المشاهير فى دولة أخرى، ولذلك فإننى أشعر بالقلق الشديد والأسى العميق تجاه مواردنا المهدرة وفرصنا الضائعة وتفكيرنا العشوائى، وإذا كان ذلك مقبولًا فى عقود مضت فإن الأمر يختلف حاليًا ونحن نقوم بعملية حشد كامل لإمكانات مصر العريقة وشعبها الطيب فى خدمة المستقبل الواعد بكل تحدياته ومعاناته، إننى أدعو فى هذه المناسبة إلى الوضع فى الاعتبار نقاط ثلاث:
أولًا: ضرورة تعظيم الكفاءات الوطنية ذات المكانة الدولية وحسن استخدامها والتركيز أمام الأجيال الجديدة على القدوة التاريخية لشخصيات لها دور يرتبط بالمصالح العليا للبلاد ويفتح طريق المستقبل واسعًا ومشرقًا ومضيئًا.
ثانيًا: أهمية أن يحتوى نظامنا التعليمى على معلومات إضافية عن الشخصيات المرموقة فى ماضينا وحاضرنا، مع عملية تحفيز لمحاكاة تلك النماذج وتقليد إنجازاتها، ولن يتحقق ذلك إلا بإثارة الوعى فى فهم الماضى، ولعل أدق تعريف للثقافة فى مفهومها المعاصر يمكن اختزاله حاليًا فى جملة واحدة، وهى الوعى بالتاريخ.
ثالثًا: إن تجاوب النماذج الفريدة فى حياتنا واستعدادها للقيام بدور وطنى داخلى وخارجى هو مظهر متوقع من مظاهر الولاء للأرض الطيبة والسعى نحو إعطاء الكنانة ما تستحقه عرفانًا وانتماءً، وما يتعين على أبنائها نحوها فى هذه الظروف التى تخوض فيها واحدة من أضخم معارك البناء والإصلاح فى تاريخها كله، فلينادى الوطن أبناءه البررة من كل حدب وصوب لكى يكونوا فى مقدمة الصفوف وطليعة المصريين فى ظروف شديدة الحساسية بالغة التعقيد.
جريدة المصري اليوم
https://www.almasryalyoum.com/news/details/1420966