يؤرقنى كثيرًا انسحاب بعض الشخصيات من حياتنا بعد سنوات من العزلة القسرية نتيجة المرض الذى يؤدى إلى الانفصال عن العالم ويبقى أولئك الأحياء الأموات لسنوات يصارعون المرض، ويفتقدون الذاكرة، وينظرون حولهم وكأنهم يدركون كل شىء، ولكنهم لا يقولون شيئًا، أتذكر الكاتب الكبير أحمد بهاء الدين فى سنوات عمره الأخيرة وكيف كنت أجد السؤال ثقيلًا عندما أوجهه إلى زميلتى الصغيرة السفيرة ليلى بهاء الدين عن حال والدها، وكنت ألحظ أنها تحاول الهروب من الحقيقة وهى أن الوالد العظيم لا يزال يتنفس ولكنه لا يدرك من أمره شيئًا، وقد تعرض الفيلسوف الساخر محمود السعدنى لشىء من ذلك أيضًا،
وأتذكر آخر زيارة لى لمنزله وهو فى رحلة المرض، وكنت أجلس معه أنا والصديق أكرم- أغلى ما كان يملك محمود السعدنى- ورأيت نظرات ذلك الأب صاحب التاريخ الحافل الذى كان يسيطر على الجلسات، ويملأ الصحبة أنسًا وتألقًا رأيته صامتًا ينظر بلا وعى، واندهشت لذلك الكاتب الكبير الذى كان لا يتوقف عن الأحاديث وسرد النوادر وتوزيع القفشات كيف ينتهى به الأمر ليبقى فى حجرته لعدة سنوات إلا إذا أخذه أكرم فى جولة قصيرة بالسيارة، فإذا هو ينظر حوله، ولا ينطق كلمة واحدة، أما صديقى العزيز الراحل ممدوح البلتاجى، فإننى أشعر بغصة حزينة كلما تذكرته، فلقد مضى الرجل إلى رحاب ربه بعد سنوات من القطيعة مع الحياة كأنه الميت الحى، وأتذكر البداية عندما أصابه نزيف فى المخ وعولج منه فى باريس مدينته الأثيرة، وعاد ليواصل منصبه الوزارى لعدة سنوات، وكان النزيف اللعين يداعبه من حين إلى آخر إلى أن انتصر عليه وعزله عن الحياة والأحياء، وأذكر فى آخر لقاء على الغداء عند صديق مشترك أننى رأيته برفقة زوجته الفاضلة الأستاذة الدكتورة جنات السمالوطى، ولكنه كان ينظر للجميع مبتسمًا، ولا ينطق حرفًا، ومضى به الأمر كذلك لعدة سنوات حتى شحبت صورته، واختفت ضحكته، وتوارت قدراته التحليلية وتعبيراته الذكية، وما زلت أتذكر ذلك اليوم الذى احتاج فيه الرئيس الأسبق مبارك إلى مترجم عاجل من الفرنسية إلى العربية، بعد انتهاء مباحثات مع الجانب الفرنسى ومغادرة المترجم الأصلى، فإذا ممدوح البلتاجى رئيس هيئة الاستعلامات حينذاك والذى كان عضوًا فى الوفد المرافق للرئيس يقوم بالمهمة خير قيام حتى إننى رأيت فى عينى الرئيس الأسبق بريق إعجاب أظنه كان أحد العوامل التى وضعت ممدوح البلتاجى على كرسى وزارة السياحة لعدة سنوات، ثم وزارتى الإعلام والشباب لفترتين قصيرتين اختتم بهما علاقته بالمناصب العليا فى الدولة حتى زحف عليه المرض، وجرده من كثير مما يملك، وجعله يعيش بيننا، ولكنه ليس معنا، وأنا أكتب عنه الآن، لأنى وجدت فيه نموذجًا طيبًا للمصرى الوطنى والمسؤول المشرف فى المحافل الدولية، وما زلنا نذكر جهوده فى أحد المؤتمرات السياحية العالمية الكبرى الذى اقترن بحادث الأقصر فى نوفمبر عام 1997، فإذا الرجل ينبرى مدافعًا عن مصر وحضارتها وأمن أرضها داحضًا الإرهاب موضحًا الأبعاد الحقيقية لتلك الظاهرة اللعينة حتى خرجت مصر من ذلك الموقف الصعب بأقل الخسائر.
وما زلت أسترجع ذكرياتى معه أثناء سفرنا الدائم مع الرئيس الأسبق مبارك، وكيف كانت حفاوة البلتاجى بمدينة النور باريس التى كان يعتز بها، حيث درس فيها، وارتبط بأجمل ذكريات عمره على أرضها، وكنت دائمًا أحاوره فى نقاش طويل عن المقارنة بين مدينتى لندن التى أحبها وباريس التى أحبها هو، واستقر رأينا فى النهاية على أن باريس أجمل مدينة يزورها الناس، ولكن لندن أفضل مدينة يعيش فيها الناس، وما زلت أتذكر أحد المواقف الطريفة ونحن نهبط مطار (شارل ديجول) وننتظر حقائب السفر فلا يجد حقيبته الكبيرة ثم نبدأ رحلة الاستفسار عنها ما بين شركة مصر للطيران ومطارى القاهرة وباريس، ولكن لا أثر لها لكى يكتشف الدكتور البلتاجى فى النهاية أنها فى حقيبة سيارته التى جاءت به إلى مطار القاهرة أن السائق نسيها فيها وعاد أدراجه إلى المنزل، وما أكثر الطرائف التى جمعتنى به، فقد كنا نجلس أربعة على مقعدين متقابلين إبراهيم نافع ومكرم محمد أحمد وأنا وممدوح البلتاجى، ولم تكن هناك بارقة ضوء إلا نيران سيجارة الأستاذ مكرم التى لا تتوقف أما إبراهيم نافع- رحمه الله- فكان ينام مع الإقلاع، ويستيقظ مع الهبوط، مهما كان طول الرحلة، وأظل أنا وممدوح البلتاجى نتهامس حول ما نراه فى مودة ومحبة وصفاء.. رحمه الله قدر ما قدم لوطنه ومهنته وأصدقائه.
جريدة المصري اليوم
https://www.almasryalyoum.com/news/details/1422535