تستهويني بشدة محاولات متكررة للتأمل في أولئك الذين بدأوا المشوار من نقطة الصفر مع البشرية كلها، أفكر في رواد الطيران وأفكر في رواد صناعة السينما وأفكر في كل من بدأ عملًا لم يكن له وجود، فأولئك هم بحق الرواد الذين يجب أن نعترف بفضلهم وأن نتمثل أساليب حياتهم، فنحن نعلم جميعًا عن تجربة (عباس بن فرناس) للطيران بجناحين وكيف لقي حتفه، ولكن الذين ركبوا أول طائرة وأولئك الذين عبروا بها المحيط أول مرة يستحقون الإكبار والتقدير لأنهم كانوا بحق روادًا فيما فعلوا، وأتذكر جسارة الفتاة المصرية التي كانت أول قائدة لطائرة منذ قرابة ثمانين عامًا، وأتأمل في أولئك الذين كانوا لا يهابون الموت ويقدمون على تضحيات كبيرة من أجل اكتشافات توصلوا إليها أو أفكار آمنوا بها وأزعم أن تضحياتهم الكبيرة هي التي عبدت طريق الإنسانية نحو النهوض والارتقاء، أتذكر ريادة (نيوتن) و(أديسون) وقبلهما (يوحنا جوتنبرج) وقبل هؤلاء وأولئك أذكر أعلامًا وفلاسفة من أمثال (سقراط) و(أرسطو) و(أفلاطون) وعلماء موسوعيين من أمثال (ابن سينا) و(الفارابي) و(الخوارزمي) و(الحسن بن الهيثم) وغير هؤلاء وأولئك قافلة طويلة من رواد التنوير الذين رصعوا سماء الدنيا بنجوم زاهرة لازال وميضها يشع نورًا حتى اليوم، قد يكون من السهل أن نتمثل ما فعلوه وأن نتحدث عنه كما لو كان أمرًا طبيعيًا ومقبولًا ولكن حين نضع أنفسنا في ظروف من فعلوه والتوقيت الذي أحاط بهم لابد أن ندرك أهمية ما جرى، كيف كان شعور رواد الفضاء الأوائل وهم يغلقون عليهم كبسولة تحلق بهم في الفضاء اللانهائي في رحلة لا يعلم إلا الله منتهاها؟ بل إنني أضع مثالًا أقرب وأتمثل ما كان يفكر فيه الرئيس الراحل السادات لحظة هبوط طائرته في مطار (اللد) بإسرائيل ليخترق عداءً دمويًا دام لعدة عقود، وأنا ممن يظنون أن الجسارة البشرية هي التي صنعت التقدم وأن المترددين والمرتعشين لم يصنعوا شيئًا وأن الرواد الحقيقيين هم أُولئِك الذين امتلكوا إرادة صادقة وعزيمة هائلة قهروا بها المخاوف وتغلبوا على الشكوك وحققوا الإنجازات الباهرة، لقد عرفنا الإحساس بالذنب الذي أصاب ألفريد نوبل بعد اختراعه للديناميت على نحو أدى إلى ميلاد جائزة نوبل بأهميتها وقيمتها حتى اليوم، ولا أعلم تحديدًا كيف كان هو شعور (البرت أينشتاين) يوم وقوع التفجير النووي على (هيروشيما) و(نجازاكي) وهل شعر أب القنبلة الذرية بوخز ضمير أم أنه أراد باختراعه استخدامه في الأغراض السلمية ولكن صراعات البشر هي التي حولته إلى كارثة بشرية تهدد الإنسانية من حين لآخر، وهنا يتعين علينا أن نسجل الملاحظات الآتية:
أولًا: لو تمثلنا مشاعر الإرهابي الانتحاري الذي يفجر نفسه ليقتل من حوله لوجدنا شعورًا يختلط فيه الفكر المضطرب والشخصية المريضة وعملية التلقين طويلة المدى التي تجعله رائدًا في الجريمة لا يدرك مأساة ما يفعله ويتصور أنه في رحلة نحو النعيم وحور العين، فكما أن هناك روادًا يرتقون بالبشرية فإن هناك روادًا آخرين اخترقوا حجب الإجرام وجروا الإنسانية إلى الكوارث، فالريادة سلاح ذو شقين، ولكن دعنا نكرس ما نكتب حول الجانب الإيجابي للريادة بمعناها الإنساني والعلمي والأخلاقي.
ثانيًا: إن الريادة الإيجابية موزعة على الجنس البشري ولذلك فإن الإضافات الحضارية والومضات التنويرية قد جاءت من كل القوميات والديانات بغير استثناء، ولكن مهمتنا الحقيقية هي أن نؤكد عالمية الريادة وتوزيع الاستحقاق الإيجابي لها على الجنس البشري كله فنحن جميعًا ننعم بركوب السفن العملاقة والطائرات الحديثة ونستخدم الاختراعات البخارية والكهربائية والإلكترونية وقد لا نتذكر الرواد العظام الذين وقفوا وراء هذه الاكتشافات الهائلة والاختراعات العظيمة لأنها في النهاية وحدة الجنس البشري والشراكة في مسيرة إعمار الكون الذي ننتمي إليه جميعًا فالإنسانية تمخر عباب المحيطات والبحار في قارب واحد إما أن ينجو بنا أو يغرق بالجميع، يا ترى كيف كان يفكر أول من اخترع العجلة واستخدمها في الكر والفر والحرب والسلم؟ وكيف كان شعور من اخترع الكهرباء وهو يرى أول ضوء يحيط به من بنات اكتشافه؟
ثالثًا: إن الذين يجادلون في أهمية الريادة يتصورون أنها الحركة التلقائية للتاريخ ولا يدركون أن النبوغ الفردي قد أسهم إسهامات واسعة في هذا الشأن كما أنهم لا يتأملون اللحظات الصعبة وروح المغامرة الجسورة التي أدت إلى إحراق بعض الرواد خصوصًا في الفلسفة والرياضيات واتهامهم بالمروق والزندقة فدفعوا حياتهم ثمنًا لتقدم مسيرة الإنسان حتى وإن رفضهم من حولهم في زمانهم، ويتساءل المرء أحيانًا أي الاكتشافات أو الاختراعات كان أكثر أهمية من غيره وتأتي الإجابة سريعة وجاهزة أن كل ما جرى كان إسهامًا في مسيرة الإنسان لا يجب الإقلال من شأنه أو تفضيل إسهام آخر عليه.
رابعًا: لا أنسى ما قاله لي شخصيًا في منزلي بفيينا د.(هانز بليكس) والذي كان وزيرًا لخارجية السويد قبل ذلك أنه عندما أمضى في منصبه مديرًا للوكالة الدولية للطاقة الذرية في فيينا أكثر من ستة عشر عامًا طلب منه بعض أصدقائه السعي لتجديد مدته فطلبت منه ابنته الكبرى أن يصاحبها في رحلة سيارة لمدة تقل عن ساعة فخرج معها فاتجهت به نحو منطقة المقابر في المدينة التي يعيشون فيها وقالت له إن على شاهد كل قبر مكتوب أن صاحبه كان يتطلع إلى منصب معين أو الحصول على ميزة محددة فاعلم يا والدي أن الريادة هي ما انتهى بها أمرك وليست ما تتخيله من البقية الباقية من عمرك ولقد ظلت أصداء كلمة (بليكس) ترن في أذني اليوم بعد أكثر من ثلاثين عامًا.
إن الريادة في كافة المجالات أمر يستحق التقدير والاحترام شريطة أن تكون ريادة إيجابية وليست ريادة الإجرام.
نُشر المقال في جريدة الأهرام بتاريخ 10 سبتمبر 2019.