عرفت الخرطوم دورات متتالية من الحكم الديموقراطي والعسكري وهو ما أدى إلى التمسُّك بالمناصفة في المجالس السيادية
معنيٌّ أنا -مثل غيري من المصريين والعرب- بما يجري في "السودان"، لأن ذلك البلد الأفريقي العربي يحتل مساحة واسعة تمثل جسراً بين العروبة والأفريقية. الذي يتابع الشأن السوداني سوف يكتشف دائماً أن ذلك البلد الغني بثرواته والممتد بمساحاته عاش دائماً في حالة اشتباك إيجابي وسلبي في الوقت ذاته مع الجارة العربية المباشرة وهي الدولة المصرية، كما دخلت "بريطانيا" طرفاً في تلك العلاقة على امتداد القرنين الأخيرين، وكانت النتيجة أن الجانب السلبي في صورة مصر لدى السودانيين ارتبط تاريخياً بفترة الوجود البريطاني في البلدين، كما اقترن "محمد علي" وأولاده وأحفاده بالسودان من منظور امتداد نهر النيل ومنابعه في وسط القارة، على اعتبار أن السودان دولة ممر وامتداد طويل لمجرى النهر، حتى إن شماله يلامس صعيد مصر، ثم يلتقيان على أرض "النوبة" ذات التراث الحضاري العريق، الذي يمثل المشترك بين البلدين التوأم.
وأنا لا أريد أن أمضي هنا وراء المشاعر الجياشة والعبارات الطنانة التي جرى المصريون والسودانيون على استخدامها، لكنني اتجه نحو نظرة موضوعية، وذلك بالتركيز على دراسة الأحداث البارزة في تاريخ السودان الحديث، ويكفي أن نتذكر أن "فاروق الأول" كان ملك مصر والسودان وعندما قامت ثورة يوليو (تموز) 1952 تبدَّلت الأمور وتغيرت الأحوال، ولعلنا نرصد الآن عناصر التحول من خلال بعض المحطات في تطور الدولة السودانية:
أولاً: لقد كان التحول الأكبر في تاريخ السودان الحديث هو انسلاخه من العباءة المصرية، وخروجه مستقلاً بعد ثورة يوليو (تموز) المصرية عام 1952، فلقد أصاب السودانيين قلق شديد من الصراعات التي احتدمت بين قائد الثورة الشكلي "محمد نجيب" وقائدها الحقيقي "جمال عبد الناصر"، خصوصاً أن الأغلب الأعم من السودانيين كان يميل إلى القائد الأكبر سناً والأكثر قرباً من السودان، الذي قضى فترات طويلة من حياته فيه حتى قيل إن أمه سودانية، وإن دماء الجنوب تجري في عروقه، وقد كانت شخصية "نجيب" تغري بالانحياز إليها في ذلك الوقت، فهو الزعيم الطيب، الذي يبدو مغلوباً على أمره في مواجهة مجموعة من الضباط استخدموه ساتراً، ثم قرروا الخلاص منه بالحبس والنفي سنوات طويلة، وقد شهد اليوم الأول من عام 1956 استقلال السودان، وقابل الكثيرون التحول السوداني بالدهشة، إذ إن زعيم الحزب الاتحادي "إسماعيل الأزهري" تحول من الولاء للاتحاد مع مصر إلى الولاء لاستقلال بلاده الكامل، ورحبت مصر من جانبها بذلك، إذ إن الرئيس الراحل "عبد الناصر" -الذي أوفد إلى الجنوب الصاغ الراقص صلاح سالم- كان ينظر صوب المشرق العربي وليس إلى السودان، فباركت مصر الاستقلال، وظلت العلاقات بين الدولتين في صعود وهبوط على امتداد السنين منذ إعلان الاستقلال في الخرطوم حتى سقوط "عمر البشير" في أبريل (نيسان) 2019.
ثانياً: عرف السودان أنظمة متعددة وحكومات متتالية، فكانت حكومة "عبد الله خليل" التي أثارت مشكلة "حلايب" و"شلاتين" -وهي ذلك المثلث الحدودي المتنازع عليه بين مصر والسودان- حتى وصل الأمر بالخرطوم إلى التقدم بشكوى حول هذا النزاع إلى الأمم المتحدة، وكان ذلك جديداً للغاية على العلاقات المصرية السودانية رغم توقيع اتفاقية مياه النيل بين البلدين عام 1959، ثم وصل إلى السلطة الفريق "إبراهيم عبود" الذي كانت علاقاته بمصر ملتبسة، وربما باردة إلى أن أسقطه الشعب السوداني بتمرد مدني في الحادي عشر من أكتوبر (تشرين الأول) عام 1964، وهنا بدأت سطوة الأحزاب التقليدية في العودة إلى الساحة السودانية، واحتدم الصراع بين "الأنصار" و"الختمية"، بين بيت "المهدي" وبيت "الميرغني"، إذ كان الأخير يحسب نفسه على مصر حليفاً، بينما الشأن السوداني أكبر من فصيل سياسي وحده، وقد قتل الإمام "الهادي المهدي"، وجاء خلفه السيد "الصادق المهدي" رئيساً للوزراء، وهو شخصية مستنيرة، كما أنه مثقف عربي وأفريقي كبير درس في جامعة أكسفورد، وبدا للجميع وكأنه امتداد لجده الإمام "المهدي" الكبير بمواقفه التاريخية المعروفة، وقد تولى السيد "الصادق" رئاسة الوزراء، وهو لا يزال شاباً في العشرينيات، إلى أن أطاح به انقلاب الرئيس السوداني الراحل "جعفر النميري"، وهنا بدأت صفحة مختلفة من العلاقات بين القاهرة والخرطوم.
ثالثاً: عرف السودان دورات متتالية من الحكم الديموقراطي والحكم العسكري، ولعل ذلك هو الذي أدى إلى التمسُّك بالمناصفة في المجالس السيادية التي حكمت السودان، خصوصاً بعد سقوط "عمر البشير" ونظامه، وإذا كان الإمام "المهدي" الكبير صاحب مواقف وطنية تذكر له فإن موقفه التاريخي عند اغتيال القائد البريطاني "غوردون باشا"، إذ أبدى "المهدي" أسفه للحادث، لأنه كان يريد أن يقايض ذلك الضابط البريطاني الكبير بزعيم مصري أسير في منفاه بجزيرة "سرنديب"، وهو "أحمد عرابي" باشا قائد ثورة الفلاحين في الجيش المصري، ولا بد أن أعترف هنا أن العلاقات بين السودان ومصر عرفت فترة تحسن بل وازدهار، وذلك في سنوات حكم "جعفر النميري" التي امتدت قرابة خمسة عشر عاماً، كان فيها حليفاً للقاهرة، وصاحب سياسات معتدلة تجاهها، إلى أن أسقطه تمرد مدني قادته حركة الخريجين والنقابات المهنية عام 1985، ليتولى العسكري الزاهد الفريق "سوار الذهب" أمر السودان عاماً واحداً لم يتراجع فيه عن وعده باللجوء إلى الانتخابات العامة، وتفعيل الديموقراطية في بلاده، فكان أول حاكم عربي يتخلى عن السلطة طواعية إلى أن رحل عن عالمنا منذ سنوات قليلة، ولعلنا نلاحظ أن "جعفر النميري" أقام في القاهرة بعد الإطاحة به، ورفض الرئيس "مبارك" تسليمه للقضاء السوداني، باعتباره حليفاً سابقاً لمصر، وقد تعاملت شخصياً مع ذلك الرئيس السوداني الراحل في سنوات عملي بمؤسسة الرئاسة، ورأيت ندمه على ضلوعه في تهريب "يهود الفلاشا"، معتبراً أنه وقع ضحية خدعة من أطراف أخرى، وقد ظل في القاهرة إلى أن عاد إلى بلاده مكرماً بعد ثورة الإنقاذ التي قادها "عمر البشير"، وقد رحل "النميري" عن عالمنا هو الآخر منذ عدة سنوات.
رابعاً: إن الذي يعنيني هنا وأنا أتحدث عن خطايا "عمر البشير" ونظامه والجبهة الإسلامية التي حكم بها فإنني أؤكد بحياد علمي وموضوعية كاملة أن السودان وقع في قبضة الاستبداد الحقيقي، ويكفي أن نظام "البشير" هو الذي مهد لانفصال جنوب السودان، وما زلت أتذكر أن الزعيم الجنوبي الراحل "جون قرنق" قد قال لي شخصياً إنه لا يريد الانفصال، لكنه يريد السودان الديموقراطي الموحد الذي يستطيع فيه جنوبي مسيحي أن يكون رئيساً للدولة مثلما هو الأمر بالنسبة إلى مسلم شمالي، ولو أن ذلك التقسيم معيب، لأنه ليس كل الشمال مسلماً، وليس كل الجنوب مسيحياً في دولة السودان الموحد، التي كانت تمثل أكبر مساحة لدولة أفريقية، وتعتبر سلة الغذاء لكل الشعوب المجاورة، لكن جنى عليها بطش الحكام وخطايا الصراع السياسي والانقسامات المتوالية على مسرح الحياة العامة فيه، حتى إن السودان في عهد "عمر البشير" اتخذ مواقف عدائية صريحة ضد مصر، واختلف معها في الحياة السياسية تماماً، فبينما رفض "النميري" قرارات "قمة بغداد" بقطع العلاقات مع مصر كان "عمر البشير" سباقاً إلى الصدام مع القاهرة في معظم سياساتها، واستثمر مشكلة "حلايب" و"شلاتين" لإثارة النعرات المتبادلة بين الشعبين الشقيقين، وذهب بالمشكلة مرة ثانية إلى الأمم المتحدة، كما قبل التحالف مع أعداء مصر في غرب آسيا ومنطقة الخليج ودولة فارس، وكان متقلباً في سياساته مخادعاً في توجهاته شديد الكراهية لمصر وتاريخها، رغم أن حكام القاهرة في مراحلهم المختلفة حاولوا ترويضه والاقتراب منه، حرصاً على السودان الذي بدأ يبتعد شيئاً فشيئاً عن مصر، حتى إن موقف الخرطوم في أثناء مباحثات سد النهضة لم يكن ودياً تجاه القاهرة كما كان يتوقع المصريون.
إن ترحيب مصر بثورة الإنقاذ في السودان عام 1989 معروف للجميع، وأنا شاهد عيان عليه، لكن كان الإحباط شديداً بعد ذلك عندما ظهرت سلوكيات "البشير" ومعه الراحل "حسن الترابي"، وأنا الآن عندما أتحدث عن أخطاء "عمر البشير" لا أنفث عن موقف شخصي تجاهه، فلقد قلت ذلك في حياته كثيراً حتى قبل أن يعترض على ترشيحي أميناً عاماً للجامعة العربية، عندما هدد بتجميد عضوية بلاده في الجامعة لو جرى اختياري لذلك المنصب عام 2011، وأنا الآن أكتب في تجرد، وأتمنى أن يتعافى السودان في ظل نظامه الجديد، وأن يتمكن الجميع -عسكريون ومدنيون- من إسعاد واحد من أكثر الشعوب العربية والأفريقية وعياً بالتاريخ وعشقاً للحرية وارتباطاً بالانتماءات العربية والأفريقية والإسلامية.
جريدة اندبندنت عربية
https://www.independentarabia.com/node/56371/%D8%A2%D8%B1%D8%A7%D8%A1/%D8%A7%D9%84%D8%B3%D9%88%D8%AF%D8%A7%D9%86-%D8%AE%D9%8A%D8%A7%D8%B1%D8%A7%D8%AA-%D9%88%D8%B1%D8%A4%D9%89