عدت من رحلة ـــ متعددة الأهداف ـــ إلى أثينا وتذكرت طوال مدة الزيارة كلمات عميد الأدب العربي طه حسين في كتابه الشهير (مستقبل الثقافة في مصر) وقد أدركت أنه كان محقًا حينما ربط بين مستقبل ثقافتنا وبين انتمائنا لحوض البحر المتوسط مشيرًا إلى الشراكة التاريخية بين الثقافتين المصرية والهيلينية، ولا يخفى على أحد أن هناك فترة تداخل بين التاريخين الفرعوني والإغريقي ولعل حكم البطالمة الذي جاء بعد ان أعلن (الإسكندر الأكبر) نفسه ابنًا للإله (آمون) في معبده بسيوه هو خير دليل على ذلك، ومنذ ذلك الحين وهناك تواصل واضح بين الحضارتين حتى أن فكرة انشاء مكتبة الإسكندرية الأولى في عهدي بطليموس الأول والثاني قد جاءت نتيجة الاحساس المشترك بالاندماج الثقافي بين الحضارتين، وكثيرًا ما فكرت في دولة الثلاثة آلاف جزيرة باعتبارها الدولة التي اكتشفت الديمقراطية منذ ميلاد دولة المدينة في (اسبرطة) و(أثينا) وهو الأمر الذي يجعلنا نعطي الريادة في هذا السياق للثقافة الهيلينية فضلًا عن أن الشعلة الأولمبية قد خرجت من أرض الآلهة القدامي حتى طافت بالعالم كله، هذه مقدمة لما كان يدور في رأسي حتى جاءت الزيارة فأجابت على الكثير من التساؤلات وأزالت حجب الغموض، ولعلي أركز هنا على مشاهد ثلاث من بين عشر مواقع زرتها خلال الأسبوع الذي قضيته في أثينا.
أولها، ذلك الانطباع الذي ترسخ لدي أثناء زيارتي للمتحف الإسلامي في العاصمة اليونانية، وقد ذكر لنا مدير المتحف وهو أستاذ جامعي حاصل على الدكتوراه من كلية الدراسات الشرقية والإفريقية في لندن وهي ذات الكلية التي حصلت على الدكتوراه منها وانتميت إليها، ولقد قال مدير المتحف نصًا (إن معظم المقتنيات لديه هي قاهرية خصوصًا تلك التي تنتمي إلى العصر المملوكي)، وعندها تذكرت آثارنا في الخارج وأهمية الحفاظ عليها والتواصل معها وتذكرت أيضا لحظتها أستاذي الذي أشرف على أطروحتي للدكتوراه (بانايوتي فاتكيوتس) أستاذ دراسات الشرق الأوسط بجامعة لندن وهو يوناني الأصل رحل عن عالمنا منذ سنوات ، أما المشهد الثاني فهو لقائي والوفد المرافق معي بالسيد رئيس الجمهورية اليونانية بناء على دعوة كريمة منه وبترتيب من مؤسسة (ماريانا فاردينويانيس) شريكتنا في إنشاء المركز الهيلينستي بمكتبة الإسكندرية وهو مركز تابع للمكتبة يعطي درجات أكاديمية تحت إشراف قسم الدراسات الرومانية واليونانية بكلية الآداب جامعة الإسكندرية، وقد عبر الرئيس اليوناني عن اعتزاره الشديد بمكتبة الإسكندرية التي يزورها بانتظام وهو الذي يعتبر مدينة الإسكندرية درة المدن اليونانية وليس المصرية وحدها وقد عبر عن ارتياحه لنجاحات خطوات التنمية والبناء في مصر، وأضاف أن الرئيس الصيني قد فاتحه حول اهتمام بكين بحوار الحضارات مع دول البحر المتوسط خصوصًا اليونان ومصر وبالمناسبة فالرئيس اليوناني أكاديمي متميز في دراسات فلسفة القانون كما أن الأقدار وحدها هي التي دفعت به إلى منصبه الرفيع دون تاريخ سياسي أو حزبي ، أما المشهد الثالث فيتجسد في زيارتنا لمؤسسة (أوناسيس) الثقافية، وقد كان اللقاء ممتعًا لأن رئيس المؤسسة ) انتوني بابا ديمتريو) شخصية مثقفة وقوية وقد أمضى سنوات طفولته في الإسكندرية فكانت حفاوته بنا كبيرة وتحدثنا عن آفاق التعاون المشترك بين تلك المؤسسة ومكتبة الإسكندرية وكان الرجل كريمًا ودعانا إلى جولة في المبنى دخلنا فيها مكتب (اوناسيس) ذاته ورأينا فيها نسخًا نادرة من أمهات الكتب منذ السنوات الأولى لاختراع الطباعة، ولقد أدهشنا وجود عدد من النسخ الأصلية لكتاب وصف مصر الذي انتجته حملة نابليون ثم كان ودودًا أيضًا فأطلعنا على صور للمغنية اليونانية الشهيرة (ماريا كالاس) التي ارتبطت باوناسيس عاطفيًا لسنوات طويلة إلى أن ظهرت في حياته (جاكلين كينيدي) التي أطاحت بها وتزوجت ذلك الملياردير اليوناني عام 1968 بعد اغتيال الرئيس الأمريكي (جون كينيدي) بخمس سنوات تقريبًا، وقد حكى لنا رئيس المؤسسة أن (اوناسيس) كان عصاميًا من طراز فريد وأنه جاء إلى آثينا هاربًا ضمن اللاجئين الذين طاردتهم السلطات التركية في فترة المواجهة الحادة مع نهايات السلطنة العثمانية، ثم تطرق الحديث إلى أهمية الشاعر السكندري اليوناني (كفافيس)، وقد ناقشت مع رئيس المؤسسة الثرية واسعة الانتشار ما كلفنا به المسئولون في المنطقة الشمالية بالاسكندرية للبحث عن شريك يمول مشروع إحياء قصر (انطونيادس) الذي لازال في حوزة مكتبة الاسكندرية حتى الآن بعد أن أنفقت عليه قرابة 29 مليون جنية مصري للإصلاحات الداخلية فقط، وقد أبدى الطرف اليوناني استعداده للتفكير في التعاون لتحويل ذلك القصر التاريخي الذي بناه ثري يوناني عاش في الإسكندرية منذ قرابة قرن كامل لكي يكون ذلك هو مركز حوار الحضارات الذي يلحق به متحف متخصص خصوصًا وأن لهذا القصر قيمة تاريخية ففيه وقع النحاس باشا بروتوكول إنشاء جامعة الدول العربية في النصف الأول من أربعينيات القرن الماضي وللقصر حدائق واسعة يمكن استغلالها متنفسًا لأبناء الإسكندرية ومركزًا للتثقيف والتسلية في ذات الوقت.
ذلك هو بعض حصاد زيارتنا لبلاد الإغريق ذات الأساطير الشهيرة والآثار الباقية، ولقد تذكرت المقولة الشهيرة عن تعانق الحضارات وتواصل الثقافات والتزاوج التاريخي بين الأمم والعلاقات المتجذرة بين الشعوب، فقد كان اليونانيون دائمًا أصدقاء للمصريين في السراء والضراء، ولقد زاد عددهم في فترة معينة عن ثلاثمائة ألف في الإسكندرية وحدها .. لقد كانت أيامًا خوالي لزمن جميل لا أحسبها تعود قريبًا!
نُشر المقال في جريدة الأهرام بتاريخ 17 سبتمبر 2019.