شاءت ظروف حياتى الوظيفية أن أتعامل مع عدد من كبار ضباط الجيش، سواء فى وزارة الخارجية أو مؤسسة الرئاسة، ومازلت أتذكر أن اللواء «محمد حافظ إسماعيل» هو صاحب البصمة الكبيرة فى تنظيم وزارة الخارجية المصرية، وهو الذى عمل سفيرًا فى لندن وباريس وموسكو وظل علامة مبهرة فى تاريخ الدبلوماسية المصرية، وأتذكر أيضًا الفريق «سعد الشاذلى»، الذى عملت معه عندما كان سفيرًا فى لندن وبهرنى بعقليته المنظمة وتفكيره الذى يسبق الأحداث ويضع الأمور فى نصابها، ومازلت أتذكر يوم أن أقنع السفارات الإفريقية فى العاصمة البريطانية بأن تكون السفارة المصرية هى مقر الاحتفال بيوم إفريقيا بدلًا من استئجار مكان عام، فكانت فكرته الرائدة ضربة ذكية أدت إلى حضور رئيس الوزراء البريطانى ووزير خارجيته وسفراء دول العالم إلى بعثتنا فى حى «ماى فير» وأكسبتنا يومها مكانة إفريقية فى لندن لم نشهد لها مثيلًا من قبل، وهو الذى وجه دعوة لوزيرة التعليم «مارجريت تاتشر» وأقام على شرفها حفل عشاء دون مناسبة، وكأنما كان يقرأ الغيب ويستشرف مستقبل المرأة الحديدية التى تولت زعامة حزب المحافظين ورئاسة الحكومة البريطانية بعد ذلك بشهور قليلة، وهو صاحب المحاضرة الشهيرة فى مجلس العموم البريطانى غداة إعادة فتح قناة السويس عام 1975. وقد عرفت من عملى فى مؤسسة الرئاسة بعض كبار الضباط فى تاريخنا العسكرى الذى نعتز به ونفاخر، أتذكر منهم المشير «محمد عبدالحليم أبوغزالة» بثقافته الواسعة واطلاعه الغزير وقدرته على تبنى مواقف محددة عند اللزوم، فضلًا عن انضباطه الشديد وهو يؤدى التحية العسكرية كقائد عام أمام قائده الأعلى رئيس الجمهورية حينذاك، ولقد حضرت له اجتماعًا شهيرًا فى قصر القبة عندما ترأس الوفد المصرى فى مباحثات مع وفد أمريكى برئاسة «جورج بوش الأب» عندما كان نائبًا للرئيس الأمريكى «رونالد ريجان»، وبهرنى أبوغزالة يومها بثقافته ولغته وقدرته على شرح الأوضاع فى منطقة الشرق الأوسط، وقد كتبت أثناء الاجتماع للدكتور أسامة الباز الذى كنت أجلس بجواره ورقة أقول فيها «إن هذا الرجل مبهر!» فكتب تحتها بخط يده «ليس له مثيل»، وعرفت من رؤساء الأركان اسمين لامعين هما الفريق «إبراهيم العرابى» والفريق «صفى الدين أبوشناف» وقد تميز الأول بصرامته وقوة شخصيته، وتميز الثانى بدماثة خلقه وحُسن مظهره العسكرى فى كل الأوقات، وكانت لى مع الفريق العرابى صلة مستمرة، لا لأن شقيقه السفير نبيل العرابى سفيرنا الأسبق فى موسكو هو زميل وصديق، ولكن لأن الرئيس الأسبق مبارك أوفدنى ذات مرة برسالة خاصة مغلقة إلى الفريق إبراهيم العرابى فى منزله بشارع محمد شفيق على بعد خطوات من مستشفى هليوبوليس، وهو ذات الشارع الذى يقع فيه المنزل الذى عشت فيه أيضًا أنا شخصيًا سنوات من عمرى، والذى كان يبعد مسافة قصيرة من منزل الفريق الذى كان يقطن العمارة رقم 11، بينما كان مسكن والدى فى المنزل رقم 31 من نفس الشارع، وهو شارع له خصوصية، إذ تتجاور فيه إحدى الكنائس بأحد المساجد، فى مظهرٍ يعبر عن شخصية مصر الحقيقية، ولقد استقبلنى الفريق العرابى فى منزله استقبالًا طيبًا، ورأيت أن ذلك القائد الذى يبدو صارمًا متجهمًا هو إنسان فى غاية الرقة، وقد اتصل بالرئيس مبارك فى حضورى وقال له إنه سوف يحملنى ردًا مكتوبًا على تعليمات الرئيس، وتعلمت يومها أن الانضباط العسكرى لا يتوقف عند صغار الضباط، ولكنه يمتد أكثر بين كبارهم. ولست أنسى يوم تقديمنا العزاء لذلك البطل العسكرى الكبير وهو يبدو كالفارس الجريح عندما فقد ابنه خالد فجأة بعد العودة من أداء العمرة وهو فى عز الشباب محتلًا منصبًا رفيعًا كوكيل للمخابرات العامة، يومها أدركت كيف يتحكم المرء فى مشاعره ويكبت جراحه ويختزن آلامه، وعندما شاهدت الجنازة المهيبة لذلك القائد العسكرى المتميز علمًا وعملًا وخلقًا، فهمت لماذا تصدر رئيس الدولة عبدالفتاح السيسى ذلك المشهد، عرفانًا لقدر ذلك القائد الراحل، واستمرارًا لتقاليد عسكرية يعتز بها الوطن ويفاخر دائمًا.. إن فى تاريخ الجيش المصرى رموزًا باقية، يبقى منها الفريق إبراهيم العرابى نموذجًا.. رحمه الله بما قدم لأمته ووطنه.
جريدة المصري اليوم
https://www.almasryalyoum.com/news/details/1429345