انبهر الساسة والمفكرون في نهايات القرن التاسع عشر وعلى امتداد القرن العشرين بالصحافة الورقية فقالوا: إن آية هذا الزمان هي الصحافة، وأنا لا أظن أن مثل ذلك القول يظل مقبولًا بنفس الدرجة في ظل التطورات التي جرت على مستوى التقنيات المتصلة بالثورة الهائلة التي جرت في وسائل الاتصال وخلقت مجتمعًا مختلفًا تمامًا عن ماضيه القريب، فلم تعد الكلمة هي التي تصنع الخبر بل أصبح العكس صحيحًا حيث أن الخبر وكيفية تداوله هو الذي يصنع القيمة الحقيقية للإعلام المعاصر بأدواته المتطورة وآلياته التي تشكل روح العصر ووجدان المجتمعات، وإذا كانت الصحافة التقليدية قد اعتمدت على التقسيم الكلاسيكي بين الخبر والرأي فإن الأمر قد تغير إذ أن صياغة الخبر وأسلوب تداوله وأولويات تقديمه أصبحت هي الأخرى نوعًا من الرأي المغلف في وقت برعت فيه العقول المؤثرة في فني الإعلام والإعلان بحيث قطعنا شوطًا وصل إلى حد مزاحمة الصحافة الورقية والإلكترونية معًا في ذيوع الخبر وانتشاره، من هنا تكون قراءة صحيفة عالمية مثل الأهرام مسألة تربط بين التراث الصحفي والتقدم التكنولوجي الذي وصل بنا إلى ما نحن عليه، وإذا كنا نعتبر نحن المصريون الأهرام ديوانًا للحياة المعاصرة وسجلًا لتطور الأوضاع ـــ في كل العصور ـــ بروحه المحافظة وقوالبه الجامدة فإن الأمر لا ينسحب على الأهرام وحده كصحيفة ولكن ينسحب على الصحافة كمهنة، ولقد قلت في مناسبات كثيرة أن يومي لا يبدأ فعليًا إلا بعد تصفح صفحات الأهرام – في ظل كل الظروف والمتغيرات – لأن تلك الصحيفة قد عودت قارئها على أن يدرك دائمًا أنها لا تهدف للإثارة ولا تسعى لتشتيت الانتباه بل هي صحيفة رصينة يؤكد تاريخها دائمًا أنها كانت كذلك وسوف تبقى، ولقد أتاحت لي الظروف أن أتبنى مؤخرًا احتفالية رائعة في مكتبة الإسكندرية بالعيد الرابع والأربعين بعد المائة على صدور الأهرام في بدايتها من مدينة الإسكندرية ذلك الثغر العظيم الذي احتشدت فيه جنسيات مختلفة وعقليات متنوعة وجاليات متعددة فكان الناتج النهائي سبيكة متميزة فكريًا وعقليًا واجتماعًيا وثقافيًا، ولقد تحدث شيخ الصحفيين مكرم محمد أحمد مستعرضًا تاريخ الأهرام ورموزه وقياداته وتوقف عند محطات معينة أشار إليها وركز عليها، ثم تبعه رفيق دربه صلاح منتصر صاحب الأسلوب العلمي الدقيق فإذا به قد أعد لنا دراسة وافية عن الصفحة الأولى في الأهرام عند صدورها مقارنة بالصفحة الأولى من كبريات الصحف التي كانت تصدر في أوروبا حينذاك، ووجدنا أن الفارق كان ضعيفًا أو معدومًا بما يؤكد أن الصحافة المصرية التي شارك الشوام في ميلادها هي صحافة جامعة تلتقي عندها الأفكار وتنصهر الثقافات، وقد كانت صحافة وطنية حتى وهي تقيم حسابًا لتعليمات القصر وسطوة الاحتلال ربما لأن تلك الصحافة المتميزة كانت تدرك أن وعي الشعب يجعله قادرًا على فهم ما وراء السطور، وقد تحدث الكاتب الصحفي مفيد فوزي شارحًا أسلوب الأهرام التقليدي وأمثلة ذلك منه صفحة صفحة كما تحدث الأستاذ كرم جبر رئيس الهيئة الوطنية للصحافة فأشاد بالأهرام كقاطرة للنهضة الصحفية عبر السنين كذلك تحدثت بعد ذلك كوكبة من الأهرام وكتابه يتصدرهم نقيب الصحفيين السابق ورئيس مجلس إدارة الأهرام حاليًا الأستاذ عبد المحسن سلامة وتلاه رئيس تحرير الأهرام الأستاذ علاء ثابت حتى بدت معزوفة الحديث ذات إيقاع خاص في يوم تكريم الأهرام، كما تحدث الروائي الكبير يوسف القعيد والكاتب السياسي والمفكر د.أسامة الغزالي حرب والأستاذة المناضلة عبر العصور الصحفية والنقابية أمينة شفيق وتحدث الأستاذ الدكتور سليمان عبد المنعم الأستاذ بحقوق الإسكندرية وأحد كتاب الأهرام البارزين فأعطى تلك الصحيفة العظيمة بعضًا من قدرها الذي تبارى الجميع في الإشادة به والحديث عنه، ولكن كانت الرسالة المتميزة لذلك اللقاء هي تلك المتصلة بالتضافر الثقافي والفكري بين مصر الحديثة ورواد الصحافة في الحركة الأدبية القادمين من الشام في القرن التاسع عشر والنصف الأول من القرن العشرين حيث تذكرنا رموزًا مثل إميل وسليم تقلا وجورج زيدان وروزاليوسف لنؤكد أن مصر المضيافة فتحت أبوابها واسعة دون حساسية لأدباء الشام وشعرائه ومفكريه لتصنع في النهاية بوتقة ثقافية دفعت الحركة الأدبية والتواصل الثقافي والكيانات الصحفية نحو الأمام وأرست تقاليد وقواعد ظل الأهرام حارسًا لها حتى اليوم ولذلك كانت درة كلمات الحفل هي تلك التي ألقاها القنصل العام للبنان في الإسكندرية وأشاد فيها بالأهرام وفضلها وبمصر ومكانتها عندما استقبلت اثنين من مواطني بلاده قاما بتأسيس أكبر صحيفة في تاريخ الشرق وهي الأهرام، ثم وصل قرب نهاية الاحتفالية محافظ الإسكندرية الأستاذ الدكتور عبد العزيز قنصوه الذي ألقى الكلمة الختامية لهذه الاحتفالية الفريدة وعبر فيها عن سعادة الإسكندرية كمدينة وكتاريخ بهذه المناسبة واستعرض في إيجاز محاولات استعادة أمجادها والعودة بها إلى سالف عهدها عروسًا للبحر المتوسط، لقد كانت فلسفة هذه الاحتفالية لا تقف عند تكريم الأهرام وتحية الإسكندرية ولكنها محاولة من مكتبتها العريقة لإبراز المحطات الهامة في تاريخنا الثقافي ونهضتنا الحديثة، ولقد لفت نظري كثافة الحضور خصوصًا ذلك العدد الكبير من طلاب كليات الإعلام الذين سعوا لهذه المناسبة الفريدة اعتزازًا بها ورغبة منهم في مشاركة مكتبة الإسكندرية ذلك التقليد الذي يجب أن نحافظ عليه للأهرام ولغيره من المؤسسات الصحفية الكبرى حتى تدرك الأجيال الجديدة مكانة مصر مصدرًا للإشعاع، ومنطلقًا للتنوير، وحارسة للقيم الأصيلة.
نُشر المقال في جريدة الأهرام بتاريخ 1 أكتوبر 2019.