أعلم جيدًا أن الحديث عن السلطة القضائية من غير أبنائها هو أمر غير مستحب وقد لا يكون مقبولًا أيضًا ولكننى أتحدث اليوم عن موقع فريد فى الدولة لا نظير له بين السلطات الثلاث التقليدية، فمنصب النائب العام فريد فى نوعيته، مهم فى تأثيره، رمزى فى تكوينه، فالنائب العام هو محامى الشعب ومن يصل إلى ذلك المنصب الرفيع من أبناء السلطة القضائية يلقى من الأهمية ما يلقاه رفاقه من رؤساء الهيئات القضائية الأخرى ولكن تأثيره الشعبى يزيد وشهرته فى الحياة العامة تبدو ذائعة، ومنصب النائب العام فى مصر برز منذ عدة عقود مع التنظيم الحديث للسلطة القضائية وبروز دور النيابة العامة، وما زلت أتذكر أن الرئيس السادات كان يكرم النائب العام الراحل الذى كان وجوده فى موقعه مواكبًا لمحاكمة الرئيس المصرى فى سنوات نضاله قبل الثورة وهو على ما أتذكر المستشار عبد الرحمن الطوير، ولقد أوكل الرئيس «السادات» إلى أحد رجال النيابة فى فترة محاكمته رئاسة ديوان المظالم تقديرًا لذلك الجهاز ورجاله العظام، ولقد تابعت أسماء نواب العموم فى العقود الأخيرة وربطتنى بأحدهم صداقة عمر وأدركت أهمية الحياد فى هذه الوظيفة الرفيعة التى تبدو ذات صلاحيات واسعة يحددها الدستور وينظمها القانون، لأن محامى الشعب يجب أن يمتلك – إلى جانب مسؤولياته الجسيمة – صلاحيات مناسبة تسمح له بالحفاظ على حقوق المواطنين ورعاية الصالح العام، ولقد اكتشفت دائمًا أن منصب النائب العام يمضى فى تماسٍ قريب من السلطة التنفيذية أحيانًا نتيجة العلاقة بين جهاز النيابة العامة وجهاز الشرطة، وأدركت دائمًا أن النائب العام برغم انتمائه الكامل للسلطة القضائية وولائه لمبادئها إلا أن الحس السياسى ضرورى فى عمله فهو يقف على الحدود الفاصلة بين القانون والسياسة مع إعلاء كلمة القانون لأن سيادة القانون هى أدق التعريفات للديمقراطية الحديثة، والنائب العام فى منصبه الرفيع يوازن بدقة بين تطبيق القانون والملابسات والظروف المحيطة بكل واقعة مؤمنًا بالمبدأ الذى يقول إن العدالة عمياء وإن القاعدة القانونية عامة ومجردة يلزم تطبيقها على الجميع دون تفرقة، ولكن يبقى لديه فى النهاية اعتبار آخر يتصل بالصالح العام ومقتضياته شريطة ألا يتعارض ذلك مع صحيح القانون، وأنا لا أسمح لنفسى بأن أخوض فى أمور تتصل بفلسفة القانون وعدالة القضاء لأننى لم أتشرف بالانتماء إلى السلطة القضائية وهى فى ظنى الفيصل فى استقرار الدول وحائط الصد الأخير لحماية الحقوق والوفاء بالالتزامات، والقضاء المصرى العريق هو الذى أنار المنطقة العربية بالخبرة ووضع اللبنات الأولى لنظم التقاضى فى عدد من الدول العربية، فضلًا عن أن فقهاء مصر وفى طليعتهم «السنهورى باشا» قد أسهموا فى وضع دساتير بعض الدول العربية، ولم يكن غريبًا أن يحدد الدستور المصرى دور رئيس المحكمة الدستورية العليا كاختيار ثالث فى شغل الفراغ السياسى واحتلال المنصب الأول إذا اقتضت الأمور، ولقد عرفنا القاضى الفاضل المستشار «عدلى منصور» ودوره الوطنى فى هذا السياق، ولحسن الحظ فإن رؤساء مصر يوقرون القضاء ويحترمون رجاله فى معظم العهود، وأحسب أن رئيس مصر الحالى يرى فى السلطة القضائية سدًا منيعًا لحماية البلاد والعباد من خطر الإرهاب وجرائمه البشعة التى لم تتوقف بعد، فالضغوط علينا كثيرة والأحقاد متعددة ومصر تقف كالطود الشامخ واحة للاستقرار النسبى فى ظل الفوضى المطلقة فى الإقليم كله، إن منصب النائب العام يبقى علامة مضيئة فى تاريخنا الحديث والذى وصل أحد رموزه إلى الاستشهاد فى سبيل الوطن، وهل ننسى المستشار الراحل «هشام بركات» الذى دفع حياته ثمنًا لمواجهة الإرهاب والتصدى باسم العدالة لمن يحاولون تقويض أرض الوطن وسلامة أبنائه.. تحية لمنصب النائب العام وترحيبًا بمن يشغله فى هذه الفترة الفارقة شديدة الحساسية بالغة التعقيد لوطن يستهدفه من لا يريدون له الخير ويتربصون به الدوائر، فالكنانة سوف تبقى شامخة رغم عاديات الزمن وقسوة الظروف لأنها المحروسة دائمًا.
جريدة المصري اليوم.
https://www.almasryalyoum.com/news/details/1431172