اليسار المصرى تعبير عام نطلقه على كل من كان رافضًا لآليات النظام الرأسمالى، متحمسًا لقضية العدالة الاجتماعية، وفى الغالب يكون أصحاب هذا التوجه على غير وفاق مع توجهات السياسة الغربية، وإن كان بعضها يتعاطف مع اليسار الفرنسى أحيانًا وبعض ملامح الأطر النظرية للحركة (الفابية) فى بريطانيا، فضلًا عن الإعجاب بمنظومة (دولة الرفاهية) فى السويد، وربما فى غيرها من دول إسكندنافيا، ولذلك فإن تعبير اليسار المصرى ليس قرينًا للحركة الشيوعية المصرية.. نعم إن لديهما جسور تواصل، ولكن يفرق بينهما أيضًا بعض الاختلافات التى قد تبدو جوهرية أحيانًا، ولقد كان لطفى الخولى نموذجًا شامخًا يجسد شخصية اليسار المصرى ويعبر عنها أصدق تعبير، لأن كل تصرفاته كانت تأتى فى إطار الوطنية المصرية قبل أن تأتى فى إطار الأممية الاشتراكية، ولقد أثار الرجل إعجابى منذ كنت طالبًا فى الجامعة، حيث كنا نتابع أخباره ونتلقف أعداد مجلة الطليعة- المجلة اليسارية الرسمية الوحيدة فى وقتها- والتى أسسها لطفى الخولى مع رفيقه ميشيل كامل، ولابد أن أعترف بأن لطفى الخولى كان مثار إعجاب جيلى كله، لأنه كان يجسد نموذجًا يدعو للاحترام مصريًا وعربيًا ودوليًا، كما كان يحظى بشبكة علاقات ضخمة لا تبدأ من الجزائر وحدها ولا تنتهى بفرنسا دون غيرها، كما أن موقف لطفى الخولى من العصر الناصرى يستحق الدراسة والتأمل، فهو يبدو لى مندوب اليسار المصرى فى إطار نظام عبد الناصر مثلما كان- مع الفارق- دور بطرس بطرس غالى، مندوبًا لليمين المصرى لدى ذلك النظام مع مصالحة دائمة برموز العصر الناصرى ومؤسساته السياسية والأمنية على حد سواء، ومن منا لا يتذكر هيئة لطفى الخولى ممسكًا بالسيجار ينفث دخانه فى أناقة وكبرياء؟ ومازلت أتذكر من سنوات عملى فى مؤسسة الرئاسة أنه كان يتلقى هدايا من علب السيجار التى يرسلها إليه أحيانًا الرئيس الأسبق مبارك، من خلال السفير الراحل أسامة الباز، ولقد نصحنى لطفى الخولى ذات يوم ألا أكتب فى أكثر من صحيفة فى وقت واحد، وقال لى بالحرف: إن ذلك يشتت قارئك، وقد ينال من تعلقه بآرائك، ولقد استقدمه لنا صديقه أسامة الباز ليحاضرنا فى معهد الدراسات الدبلوماسية التابع لوزارة الخارجية فى نهايات الستينيات من القرن الماضى، وكان يعجبنى كثيرًا فى لطفى الخولى فكره المتجدد ومبادراته خارج الصندوق تمامًا، وهو الذى تلقف بعض الآراء المعتدلة لليسار الإسرائيلى، محاولًا توظيفها لخدمة الأهداف الفلسطينية وحل الصراع المتأزم فى المنطقة، ولعلنا لانزال نتذكر (مجموعة كوبنهاجن)، التى كان يسانده فيها بعض المثقفين من شباب مصر، أتذكر منهم الآن الصديق د.عبد المنعم سعيد، وكان لطفى الخولى يتميز بالفصاحة وحسن الإلقاء والقدرة على إقناع سامعيه، فضلًا عن حيويته ومساحة الحرية التى ينتزعها انتزاعًا فى كل عهد بشخصيته المقبولة وثقافته الغزيرة واتصالاته الواسعة، كما كان إلى جانب أنه سياسى مرموق فهو يضرب بسهم فى عالم الرواية ودنيا القصة وتعاطى الأدب كاتبًا ومفكرًا ومحللًا للأحداث ومستقرئًا للمستقبل، تراه بين أصدقائه، بدءًا من هيكل وبهاء الدين وصولًا إلى أبناء الذوات ممن اختاروا اليسار طريقًا رغم انتمائهم لبيوت ثرية وعريقة، ولعل النموذج الواضح لذلك كان هو رفيقه الراحل محمد سيد أحمد، ولقد كان لطفى الخولى جريئًا فى رأيه، مقتحمًا بأفكاره لا ينافق مسؤولًا ولا يحمل المباخر لحاكم، ولكنه كان أيضًا معتدل الرأى صافى السريرة يؤمن بالإنسان ويتعاطف مع الطبقات الكادحة فى كل الظروف، ولم يَسْلم بالضرورة من بعض العقوبات الناصرية، والجدير بالذكر هنا أن اليسار المصرى الذى حبس معظم قياداته الزعيم الراحل عبدالناصر هم أنفسهم أكثر الناس ولاءً له وارتباطًا بأفكاره حتى الآن، ولقد اقترن لطفى الخولى بزوجة مصرية منفتحة على النوافذ الأجنبية، وأعنى بها السيدة ليليان- أطال الله فى عمرها- وابنته زوجة الدبلوماسى السابق، والذى كان مرموقًا فى جامعة الدول العربية، خصوصًا على ساحة العلاقات بين العرب وإفريقيا، تلك صفحة مطوية من تاريخ هذه الشخصية التى تستوجب الإكبار وتستحق الاحترام.. رحم الله لطفى الخولى، فقد كان شامخًا فى حياته، عزيزًا بعد مماته.
جريدة المصري اليوم
https://www.almasryalyoum.com/news/details/1434854