برع الإنجليز فى استخدام العبارات التى تبدو كأنها تشكل إطارًا أخلاقيًا لحياتهم، بينما الواقع يؤكد أن الأمر يختلف، ولقد ظلت هناك عبارات يستخدمها البريطانيون عمومًا بينما الدلالات الحقيقية لها تشير إلى أمر مختلف، فهم يسمون الواسطة (Reference) أى مرجع، ويسمون الرشوة (Gift) أى هدية، ولقد تحولت هذه العبارات على ألسنة المصريين لتأخذ معناها المباشر ومدلولها الحقيقى، فنحن هنا فى مصر نؤمن إيمانًا مطلقًا بأن ما نسميه (الواسطة) لتحقيق الأهداف وبلوغ الغايات هو أمر أساسى لا يمكن التخلى عنه، وأحيانًا يتصل بى شخص قد لا أعرفه جيدًا ولكنه يطلب منى التدخل لدى جهة ما لتذليل بعض الصعاب وحل بعض المشكلات، فأتساءل فى نفسى: هل حاول هذا الشخص أن يحقق ما يريد دون اللجوء إلى (الواسطة)؟! ولقد اكتشفت دائمًا أن المصرى يستسهل الحديث إلى الواسطة والسعى إليها، لأنه قد وقر فى ضميره أنها السبيل الوحيد لبلوغه الغاية التى يسعى إليها، مع أنه لو حاول أن يحل مشكلته بعيدًا عن توسيط البعض لكان ذلك أسهل عليه وأيسر، ولقد قمت بتجربة فى إحدى السنوات حين طلب منى أبناء دائرتى الانتخابية - عندما كنت نائبًا فى البرلمان - فقررت أن أحجم عن التوسط فيما يطلبه الناس، وقلت لنفسى إن الوساطة هى سرقة من حق شخص آخر وإقلال لمبدأ تكافؤ الفرص وتعبير عن لغة المحسوبية والمحاباة، وأحيانًا يأتينى بعض أبناء الوطن وهم يطلبون التدخل فى حل مشكلة ما، فأحجم أنا عن ذلك مقنعًا ذاتى بأن أى ميزة استثنائية يحصل عليها مواطن هى تلقائيًا حرمان لمواطن آخر من ميزة يستحقها، وأنا أقول هذا بمناسبة ما سمعته من حديث الرئيس عبدالفتاح السيسى عند تخريج أول دفعة فى كلية الطب العسكرى، وكنت أسائل نفسى دائمًا: هل يحق لفرد أن يستأثر بخدمة إضافية نتيجة تمكنه من الوصول إلى النائب، بينما لم يستطع سواه أن يحقق ما يريد؟!، واكتشفت أن موضوع الوساطة هو غرس بريطانى تمكن الإنجليز من توطينه فى أعماقنا، ولقد قمت بتجربة منذ عدة سنوات عندما انهالت علىّ طلبات للتوسط فى دخول كلية الشرطة وأنا أعتبر ذلك تدخلًا لا يليق بالالتحاق بكلية نظامية منضبطة يؤثر خريجوها تأثيرًا مباشرًا فى أحوال الشعب وظروف الناس، ووعدت كل من تحدث إلى بأن كل شىء سيتم بمعايير ولا داعى للقلق، وكانت النتيجة أن عددًا منهم قد اتصل بى بعد ظهور النتيجة شاكرًا قبول من كان يطلب الوساطة له فى الكلية، ووجدت من الشجاعة أن أقول لهم جميعًا إننى لم أتحدث، وإن من نال شرف الالتحاق بالكلية كان بجهده نتيجة الكشوف الطبية والرياضية وغيرهما، والتى تتم فى شفافية كاملة، ولكن الناس لا يبدون مقتنعين بأن شيئًا من ذلك يجب ألا يحدث، وأن الوساطة ميراث تركى بريطانى سماه الإنجليز الدهاة بكلمة Reference، بحيث تجدها واضحة فى استمارات الالتحاق بالوظائف المهمة والجامعات المرموقة، ويفسرون ذلك بأنه استئناس بآراء شخصيات معروفة عند تقديم شخصيات غير معروفة، أما الرشوة فحدّث عنها ولا حرج، فهى ميراث عبر على كل الشعوب ووصل إلينا من قرون الظلام للاستعمار التركى، حيث كانت (البرطلة) هى التعبير المستخدم لاستقبال الرشوة التى ينالها أصحاب السلطة والحظوة والمتحكمون فى مقدرات الناس، وعلى الجانب الآخر سماها البريطانيون Gift.
ولقد تعلمت درسًا لا أنساه، عندما كنت شابًا صغيرًا أحاول الالتحاق بإحدى الجامعات البريطانية فى لندن، فقد نصحنى أحد الزملاء القدامى بأن أحمل معى هدية فرعونية صغيرة لسكرتيرة القسم ذات النفوذ فى توزيع الطلاب على الأقسام الدراسية، وقد فعلت ذلك، وهالنى أن السكرتيرة تقبّلت الهدية بسعادة، وحاولت بالفعل تقديم مساعدة استثنائية من حيث تجاوز موعد التوقيت فى وصولى إلى لندن، ولكننى عدلت عن ذلك التوجه وذهبت إلى جامعة ذات مصداقية يصعب فيها تقديم الهدايا، وإن كانوا قد طلبوا منى مباشرة اسمى الراحلين الدكتور بطرس بطرس غالى والدكتور محمد زكى شافعى كمرجعين للاستئناس بتوصيتهما فى القبول، وقد فعلت ذلك راضيًا، لأن ذلك أمر معتاد فى الجامعات.. إننى أريد أن أقول إن المحاباة والاستثناءات وازدواج المعايير فى الاختيار هى أمور تحتاج إلى مراجعة أمينة، لأن تكافؤ الفرص يحتم علينا جميعًا التوقف عن هذه الممارسات، على أن يقتنع عامة الشعب بأننا ندخل عصرًا يقوم على منطق المساواة وإقرار العدالة بين أبناء الوطن بلا تفرقة أو تمييز أو انحياز.. إن كلمات السيد الرئيس ليست منشئة لظاهرة من العدم، ولكنها كاشفة لمرض عضال استشرى فى الجسد المصرى عبر القرون.
جريدة المصري اليوم
https://www.almasryalyoum.com/news/details/1436719