سرت دهشة فى أوساط عربية بل أجنبية أيضًا عندما خرج اللبنانيون إلى الشوارع محتجين كأنما عز عليهم ألا يكونوا شركاء فى النمط الذى ساد المنطقة منذ أحداث الربيع العربى، وكان مصدر الدهشة هو أن ذلك الشعب الذى يتمتع بدرجة عالية من حب الحياة رغم ما مر به من ظروف صعبة، منها حرب أهلية امتدت لأكثر من خمسة عشر عامًا فضلًا عن التهام حزب الله للدولة اللبنانية منذ سنوات بصورة صارخة خصوصًا فى العقدين الأخيرين، وكأنما فرض على اللبنانيين أن يكونوا فى مواجهة لا يريدونها وصراع ليس من اختيارهم، بل ربما على غير طبيعتهم، فالشعب اللبنانى ينتمى فى تركيبته إلى شعوب التجارة والخدمات والرغبة الدائمة فى الرفاهية مهما كانت الظروف، لذلك لم يكن غريبًا أن تحتوى مظاهرات ذلك الشعب الشقيق الرقيق على رقصات فلكلورية وأغان شعبية وهتافات وطنية لأن مشكلة ذلك الشعب الذى كان دائمًا مصدر إلهام فكرى وإشعاع ثقافى هو أنه يدفع الضريبة عن المنطقة التى يعيش فيها محصورًا بين الإسرائيليين والفلسطينيين والسوريين وله مع كل دولة من دول الجوار الأخرى نمط خاص من التعامل، فسوريا تراه جزءًا من الشام الكبير وتسعى لفرض الوصاية عليه كلما استطاعت إلى ذلك سبيلًا، أما الفلسطينيون فهم يريدون استباحة مناطق من أرضه لتوطين أكثر من ثلاثمائة ألف لاجئ، بينما إسرائيل تنظر إلى ذلك البلد العربى المتقدم نسبيًا فى أساليب الحياة ونوعية الخدمات بشىء من الحقد أحيانًا ومن الاستخفاف أحيانًا أخرى، أما إيران فهى تحاول التهام الجنوب اللبنانى، ولقد زرت ذات مرة الضاحية الجنوبية فى بيروت وراعنى أن الملصقات هى صور الملالى وأن المطبوعات بعضها باللغة الفارسية وكأننا أمام ضاحية فى مدينة إيرانية،
.. ولا بأس من ذلك كله فالشعب اللبنانى يعرف التعددية الطائفية التى جعلت منه موزاييك يعطيه فرادة وتميزًا، ففيها السنة والشيعة وفيها المسيحيون والدروز، ولقد أعطى ذلك البلد العربى الرحب مساحة كبيرة لرواده وعشاقه وكلما صدح صوت فيروز تحركت معها المشاعر واهتز اللبنانيون من الأعماق، ويكفى أن الأرمن اللبنانيين لهم مقاعد فى مجلس النواب!، ويكفى أيضًا أن لبنان هى بلد جبران خليل جبران وميخائيل نعيمة وشاعر القطرين خليل مطران فضلًا عن مصفوفة طويلة ممن أثروا الحياة الثقافية فى مصر التى قَدِموا إليها هربًا من البطش العثمانى قرب نهايات القرن التاسع عشر وأضاءوا مصابيح الصحافة وأنوار المسرح ودخلوا إلى عالم السينما ووجدوا فى مصر المضيافة صدرًا رحبًا يحتوى كل القادمين إليه أو الساعين إلى المناخ الحضارى الفريد الذى تستأثر به الكنانة عن سائر أقطار المنطقة، ولكن الرواية لا تتم فصولًا، فالله الذى أعطى لبنان ميزات بغير حدود هو سبحانه وتعالى الذى ابتلاها بطبقة من السياسيين معظمهم لا يعرفون قيمة الوطن ولا يدركون معنى الانتماء إليه، فضلًا عن استباحة كثير من حكام ذلك البلد لأموال الشعب ومقدراته إذ إن اللعب هناك على المكشوف والأهم من ذلك هو أن كل طائفة تحسب نفسها تاريخيًا على قوى دولية أو إقليمية معينة، فالموارنة مرتبطون بفرنسا، والدروز هم المفضلون لبريطانيا، والشيعة شديدو القرب من إيران أما أهل السنة فإن ملاذهم الأكبر هو مصر والسعودية، ولا عجب فهى لبنان التى عرفت ذات يوم شريطًا داخل أرضها مواليًا لإسرائيل قاده ضابط لبنانى سابق هو الرائد سعد حداد، أى أننا أمام بلد يجمع المتناقضات ويروض الزعامات ويتأرجح بين ميثاق عام 1943 فى جانب واتفاق الطائف فى جانب آخر مع أطماع تحيط به من كل اتجاه، وهى أمور تعودنا عليها فى ذلك البلد الشقيق بينما أقصى ما سعى إليه اللبنانيون هو استقلال القرار السياسى وتحقيق الاستقرار الأمنى لأن (سويسرا الشرق) يجب أن تظل متحفًا جميلًا وموقعًا أنيقًا وسط الغابات الشرق أوسطية المتشابكة، وذلك كله يقع فى إطار بلد يعشقه أهله ويتغنون بأمجاده فوق (جبال الأرز) فى كل المناسبات.. إن لبنان كان دائمًا هو ضحية للاستقطاب الدولى والصراع الإقليمى، وها هو اليوم بين شقى الرحى يعانى من مطرقة حزب الله وسندان الزعامات المزمنة عبر تاريخه الحديث!.
جريدة المصري اليوم
https://www.almasryalyoum.com/news/details/1442734