يقول مؤرخ الجغرافيا وفيلسوف الهوية جمال حمدان: إن العروبة طارئة في بعض الدول العربية ومنها مصر! وإذا كنا جميعًا نتغنى بأمجاد عروبتنا ونتحدث عن التاريخ المشترك إلا أننا أيضًا مصابون بنزعات قطرية وتشابكات في الهوية تجعلنا لا نستطيع أخذ مضمون العروبة على إطلاقه، فالمصريون يتحدثون عن الفرعونية واللبنانيون يرددون صفحاتهم من التاريخ الفينيقي، أما العراقيون فقد كفتهم بابل وآشور إذا أرادوا أن يشيروا إلى تاريخهم قبل الإسلام الذي حمل العروبة إليهم، ولأن هذه المنطقة التي نعيش فيها هي ملتقى للحضارات ومركز تواصل بين الثقافات فإن التداخل في مقومات الشخصية الوطنية لكل دولة أمر وارد، وإذا كنا جميعًا نفتخر بأننا نعيش تحت مظلة العروبة إلا أننا لا نراها عروبة كاملة باستثناء المنطقة التي خرج منها الإسلام حاملًا معه الثقافة العربية إلى الشعوب التي اعتنقته والأقوام التي رحبت به، وأنا أظن أن الاعتراف بالاختلافات – وهي ليست كبيرة – أمر يعزز صلابة الانتماء وقوة الارتباط بين أطراف المنطقة العربية في غرب آسيا وشمال إفريقيا والجزيرة والخليج لأننا نزعم بأن التركيبة السكانية في هذه المناطق قد تختلف ولكنها تتفق في إطار ثقافي موحد، فالاعتراف بالتباين هو التأكيد الموضوعي للمشترك الثقافي وآثاره في كل اتجاه، والآن دعنا نغوص قليلًا في بعض المحاور المتصلة بقضية التجانس العروبي داخل المنظومة القومية:
أولًا: لقد ورثت الأرض العربية مجموعة غنية من الحضارات القديمة والثقافات العريقة والديانات السابقة على التوحيد والتالية له، لذلك فالعرب يعيشون على رقعة مر عليها الدهر واختلطت فيها الأجناس حتى جسدت في النهاية مكونًا عربيًا واحدًا برغم اختلاف مستويات المعيشة وحجم السكان ودرجة التعلم لكل مرحلة.
ثانيًا: إن الثنائي – العروبة والإسلام - الذي نعترف بانتمائنا له نتيجة استقراء التاريخ العربي الحديث سوف يوضح لنا أن الدين هو الذي حمل القومية بدليل أن هناك دولًا إسلامية في المنطقة قبلت الدين وتحفظت على العروبة، بينما هناك دول أخرى قبلت الاثنين معًا وذلك يعني أن عرب الجزيرة قد استغلوا الزخم الناجم عن الدعوة الإسلامية في الانتشار بين أقطار المنطقة ليصبغوها بالثقافة العربية ويروجوا لقوميتهم، ولحسن حظهم أن العوامل المختلفة في المكون الحضاري للشعوب قد بدأت هي الأخرى تتغير وربما تتآكل إذ أن الدنيا تشهد تحولات كبرى تؤثر بالضرورة على مستقبل الأوطان.
ثالثًا: لقد أصبح العامل الثقافي هو المتغير المستقل في العلاقات الدولية المعاصرة فالثقافة هي القاطرة التي تحمل هوية الدولة التي عاشت فيها وتشدها نحو المستقبل الأفضل، ولم تعد السياسة هي المظهر الحي للهوية بل إن الثقافة العادلة التي تقوم على أسس سليمة هي القادرة على تفهم مثل هذه الأمور وفك الاشتباك بين الماضي والحاضر لأن هناك صراعًا ثقافيًا داخل الدولة الواحدة، بينما يحتاج الأمر إلى رؤية أمنية ناجحة تضفي على الدبلوماسيين خصوصًا في سفاراتهم في الخارج رداءً وطنيًا شريطة أن يدركوا قيمة العلم وتحيته والمعرفة وقيمتها.
رابعًا: إذا كنا نسلم بأهمية الثقافة كقاطرة للحركة القومية فإننا لا نغفل قيمة الاقتصاد وأهميته، فالشعوب كما يقولون تزحف على بطونها وليست الجيوش فقط ولذلك فإن تلبية حاجات الناس في أي قطر عربي هي مسئولية الحاكم ومن معه وذلك يعني أن الخلفية الاقتصادية لأي قرار سياسي هي أمر واجب لا يمكن تخطيه أو العبث به، والاقتصاد من وجهة نظرنا يعني الوفاء بمتطلبات البشر ورفع مستوى معيشتهم والسعي للارتقاء بحياتهم دون تمييز بين البشر مع إعمال مبدأ المواطنة بلا تفرقة أو استثناء.
خامسًا: إن المتأمل للخريطة السياسية العربية سوف يلاحظ أنها محاطة بقوىً مجاورة، فالقومية الفارسية شرقًا والتركية غربًا، وإسرائيل ركيزة يعتبر وجودها أساسًا من أسس تشتيت الأمة العربية وتمزيق أوصالها، ولا يقف الأمر عند هذا الحد فإن مخاطر أخرى يمكن أن تتحرك من منطقة القرن الإفريقي والزاوية المواجهة للعرب جنوبًا ولذلك فإن علينا أن نتحسب دائمًا لكافة المخاطر المحتملة والتي تتجدد حولنا مغلفة بحزام ناسف من الإرهاب الشرس الذي حاول تمزيق أطراف الأمة العربية وتهديد وحدة أراضيها وسلامتها الإقليمية، كما يجب أن نضع في اعتبارنا أنه لا يوجد مبرر لكي نتحدث دائمًا بلغة محبطة بل لا بد أن نستمد من ماضينا ما يدفعنا نحو مستقبل أفضل يكون أكثر استقرارًا وتقدمًا.
هذه مظاهر عابرة لما يدور حولنا ويهدد أرضنا وهي تبدو في مجملها بحاجة إلى دعوة قوية لتحديث النظم وتقوية الاقتصاد لأن النموذج الناجح هو الذي يلفت إليه الآخرين، فيجب أن نؤمن أن قوة الداخل هي التي تؤدي إلى عزة الخارج ولن يخرج العرب من دائرة الهوان إلا إذا اعتزوا بهويتهم وتمسكوا بمقوماتها خصوصًا بالجانب الثقافي منها لأن ذلك هو السبيل الصحيح والمسلك الوحيد للخروج من الممر الضيق الذي نحاول عبوره منذ سنوات خصوصًا وأن أحداث الربيع العربي قد غذت النعرات وأثارت الطائفية وسربت إلى العروبة سرطان التمييز بل وثقافة الكراهية أيضًا ولن تقوم لنا قائمة إلا إذا أدركنا أن الله لا يغير ما بقوم حتى يغيروا ما بأنفسهم.
نُشر المقال في جريدة الأهرام بتاريخ 19 نوفمبر 2019.