هدد الداهية (هنري كيسنجر) عام 1973 بأن الغرب سوف يضع الغذاء في مقابل النفط food for crude وذلك عقب حرب العبور عام 1973 وإعلان الدول العربية المصدرة للنفط أنها سوف تضع حظرًا على الدول الداعمة لإسرائيل، وقد كان (هنري كيسنجر) مدركًا أن العالم العربي يستورد أكثر من ثمانين في المائة من احتياجاته الغذائية من خارجه برغم الأراضي الواسعة والمياه الوفيرة، في بعض المناطق، ولقد كان من الواجب أن يعتبر تصريح (كيسنجر) ناقوس خطر أمام الدول العربية لتسعى جاهدةً لتوظيف كل مواردها في خدمة قضية الاكتفاء الذاتي من الغذاء، وبالرغم من أن دولًا عربية ثرية تحاول حاليًا زراعة مساحات واسعة من الأراضي في بعض دول حوض النيل خصوصًا في السودان وإثيوبيا لتضييق الفجوة الغذائية وإنتاج الحبوب بالاستفادة من المياه الوفيرة فالذي يزرع في دول حوض النهر يصبح تلقائيًا شريكًا في الاستفادة من مياهه، ولو أخذنا النموذج المصري فسوف نجد أن أزمة الغذاء قد انعكست على أسعار مكونات الطعام فيها ورغم وجود محاولات جادة تحت مسمى بنك الطعام اقتداءً بما فعله (محمد يونس في بنجلاديش) فإن الأمر يواجه ظروفًا صعبة في بلادنا فحتى الوجبة الأساسية والشعبية للفقراء وهي «الفول» بمشتقاته هي الأخرى مستوردة من الخارج، فالفول والزيوت والتوابل وهي مكونات تلك الوجبة لا يغطي الناتج ، المحلي منها احتياجات الملايين من المصريين، خصوصًا الطبقات الشعبية الأكثر عددًا والأشد فقرًا، ولقد دعا رئيس الوزراء الأسبق ـــ قبل ثورة يناير 2011ـــ الدكتور أحمد نظيف إلى اجتماع لمناقشة المعاناة المصرية خصوصًا في الاحتياجات الغذائية، وكنا مجموعة من المثقفين المصريين وأتذكر أن الأستاذ مكرم محمد أحمد نقيب الصحفيين حينذاك اقترح ضرورة العمل على انتاج وجبة مصرية محلية خالصة تكون في متناول الفقراء ولا تتوقف على الاستيراد من الخارج أو التأثر بأسعار السلع القادمة، وأنا أذكر أن الهنود قد نجحوا في شيء من ذلك، بل إن دولًا ذات اقتصادات قوية مثل بريطانيا لديها وجبة (قطع السمك مع البطاطس المقلية) في متناول فقراء ذلك البلد المتقدم لذلك أسجل هنا الملاحظات التالية:
أولًا: لقد كنت أجلس مع مجموعة من الأصدقاء في حضرة السياسي المصري المخضرم د.كمال الجنزوري رئيس الوزراء مرتين إحداهما في تسعينيات القرن الماضي والثانية بعد ثورة يناير 2011 وهو حاصل على الدكتواره في الاقتصاد الزراعي من الولايات المتحدة الأمريكية وقال لنا الرجل يومها بخبرته الواسعة إن علينا أن نخصص على الأقل نصف مليون فدان من الأراضي التي نسعى لاستصلاحها لزراعة الفول والحبوب الزيتية وغيرها من لوازم الطبق الأساسي لفقراء مصر وما أكثرهم، وذلك لا يقلل بالطبع من أهمية السلعة الاستراتيجية الأولى وهي القمح حتى أن المصريين يربطون بين كلمة الخبز وكلمة العيش لأن القمح هو المصدر الأساسى للغذاء.
ثانيًا: لقد فطن أشقاؤنا في الخليج إلى هذه المشكلة وأدركوا أن الأرز هو الطبق الأساسي على موائدهم فسعوا إلى زراعته خارج بلادهم وتأمين استيراده لعقود طويلة من دول أخرى ووضعوا خططًا مستقبلية لذلك، ولقد تفضل بعض خبرائهم فأخذوا رأيي في دراسات معدة حول هذه الموضوعات وأسعدني أن تلك الدراسات المستقبلية تجد طريقها وتنال أهميتها لدى أثرياء العرب وليس فقراءهم فقط.
ثالثًا: إن الهند بلد المليار والمائتي مليون قد أصبحت دولة اكتفاء ذاتي في الحبوب الغذائية بتخصيص ولايات هندية معينة لإنتاج سلع بذاتها وفقًا للميزة النسبية لكل منها فما تزرعه (الترابراديش) يختلف عما تنتجه (راجستان) ببيئتها الصحراوية وظروفها المناخية.
رابعًا: لابد أن أعترف أن مصر قد قطعت شوطًا طويلًا في تطوير قطاعها الزراعي وهيكلة مواسمه المختلفة، وقد أسهم الدكتور يوسف والي بقدر كبير في تنمية زراعة الفاكهة باعتباره أستاذًا في مادة البساتين خصوصًا بإدخال زراعة (الصوب) في البلاد، وجاء من بعدة كوكبة لامعة مضت على طريقه نتذكر منهم أحمد الليثي وأمين أباظة والدكتور عادل البلتاجي ممن كانت لهم خلفية سياسية تعين في النهوض بهذا القطاع الذي يرتبط بالريف المصري الذي هو بدوره وعاء القيم ومصدر التقاليد ومنبع الشخصية المصرية.
خامسًا: إن الحديث عن الثورة الصناعية والتطورات الهائلة فيها وأهميتها الكبرى في صنع التقدم وتحديث الدولة يجب ألا تؤدي أبدًا إلى إهمال القطاع الزراعي المرتبط بأهم احتياجات الإنسان وهو الغذاء، ولنتذكر أننا دولة نهرية عريقة تعتبر من أقدم دول العالم خبرة في ميدان الزراعة باعتبارها الحرفة الثانية بعد الحرفة الأولى التي لا نفضل الحديث عنها كذلك فإن الزراعة المصرية تواكبت مع الصيد والرعي في ظاهرة غير معروفة لدى كثير من المجتمعات القديمة لذلك من الطبيعي أن يهتم المصريون بالفلاح وبالقرية وبالأرض الزراعية التي تفتتت وجرى العدوان عليها بالغابات الأسمنتية القبيحة، وقد كتب لي حفيد عبد الوهاب باشا طلعت رئيس الديوان الملكي وعضو مجلس الشيوخ بعدها يذكرني بأن جده قد طالب قبل الثورة بتحديد الملكية الزراعية ومقاومة الإقطاع مثلما فعل غيره ومنهم ميريت غالي وإبراهيم شكري ومحمد خطاب وبعض قيادات الطليعة الوفدية. هذه رؤية رأيت أن أسوقها أمام من يخططون لمستقبل الوطن ويسعون إلى ترسيخ البرامج الإصلاحية له في مختلف القطاعات، مؤكدًا أن الزراعة حرفة باركتها الديانات، وقدرتها الثقافات، وعاشت عليها الشعوب، وازدهرت بها الأمم.
د. مصطفي الفقي;
جريدة الأهرام العدد 47412
تاريخ النشر: 27 سبتمبر 2016
رابط المقالة: http://www.ahram.org.eg/NewsQ/552956.aspx