إذا كنا نعانى ضغطا سياسيا وحصارا إعلاميا خارجيا وأزمة اقتصادية طاحنة هى تراكم لأخطاء عقود مضت ونتيجة ترحيل المشكلات حتى تفاقمت إلا أن هناك ما يجب أن نلتفت إليه بشدة لأن علاجه بأيدينا مهما كانت ظروفنا وأعنى بذلك أمرين تزايد وجودهما بشكل ملحوظ فى الفترة الأخيرة حتى أصبحا هاجسًا يؤرق الضمائر ومصدرًا للألم ومبعثًا للحزن لكل من يتابع ما يحدث وأعنى بهما ضحايا الطرق ــ سيارات أو قطارات - فى أنحاء البلاد إلى جانب مئات الغرقى من أبناء ريف مصر الذين يختارون الموت انتحارًا فى البحر هربًا من الفقر وتخلصًا من البطالة وسعيًا إلى رزق جديد على شواطئ أوروبا!
إننى أكتب هذه السطور وتتملكنى مشاعر من الحزن الدفين لأنى أرى الفقراء يدفعون ضريبة أموال نهبت وحقوق سرقت وأراضٍ جرى الاستيلاء عليها بينما هى من أملاك (المحروسة).
إن ما يجرى هو نتيجة لمأساة وطن ضربه الفساد وعشش فيه الإهمال حتى أصبحت الأرواح رخيصة وهان على المصريين فلذات أكبادهم أطفالًا وأرواح أبنائهم شبابًا وقد حان الوقت لكى ندق ناقوس الخطر بشدة ونلفت الأنظار إلى ما جرى وما يجرى ونحن نلوك الأخبار ونثرثر بها فى المقاهى ونمصمص الشفاه فى الأمسيات، أما حان الوقت كى نواجه الأمر فى شجاعة و صرامة وعدالة وانضباط، إنى أحيل القارئ معى إلى الملاحظات التالية:
أولًا: إن معدلات حوادث الطرق فى مصر فاقت كل الحدود الدولية المتعارف عليها وبلغت نسبًا عالية نتيجة التهور والاستهتار فضلًا عن التسيب الواضح لدى من يقودون السيارات خصوصًا ما يتصل باللوريات ذات المقطورات على الطرق السريعة مع الإهمال الشديد فى احترام قواعد قيادة المركبة والالتزام بقواعد المرور، كذلك فإن هناك نسبة كبيرة من الشباب تقود السيارات برعونة وقد لا يكون لديها رخصة قيادة بالمرة!
ثانيًا: إن لدينا على الجانب الآخر ظاهرة قديمة أفرخت مآسى مروعة عندما حاول بعض الشباب خصوصًا من القرى الهروب نحو حياة أفضل تحت مسمى الهجرة حتى ولو كانت غير شرعية ويركبون البحر بسفن متهالكة يملكها بعض معدومى الضمير وتحمل كل سفينة صغيرة أربعة أضعاف حمولتها أو تزيد بل وتقف فى عرض البحر لتستقبل مزيدًا من الركاب القادمين من القرى الساحلية الأخرى متصورين أنهم يعبرون نحو أرض الأحلام ويخلعون رداء الفقر والعوز ويتخلصون من شبح البطالة فتكون النتيجة انقلاب المركب بمن عليه حتى تغوص فى أعماق البحر الأبيض وتسقط جثث الأطفال والشباب الصغير حيث وسائل النجاة محدودة واحتياطات الأمان والصيانة معدومة نتيجة خراب الذمم وشيوع الفساد والإهمال وفى النهاية يدفع فقراء مصر الثمن باهظًا!
ثالثًا: إن البطالة غول ينهش فى كبد الوطن ويصيبه فى أعز ما يملك وهو شبابه، ولقد برزت فى العقود الأخيرة اقتراحات متعددة تدعو إلى التركيز على التدريب المهنى وإعطائه أولوية عن سواه، وهناك فرص ضائعة فى هذا الشأن لأننا لم ندرك أنه جزء مكمل للتعليم، فالتدريب المهنى هو (القنطرة) التى يعبر عليها من يحمل المؤهل الدراسى نحو آفاق الحياة العملية بكل خبراتها والكفاءات المطلوبة لها، لذلك فإن لدينا فى مصر ما يمكن تسميته (البطالة النوعية) أى أن هناك ملايين من الشباب العاطل وفى ذات الوقت فإن هناك ندرة فى كفاءات معينة وتخصصات بذاتها.
رابعًا: إننى أتذكر أن كوريا الجنوبية قد عرضت علينا فى منتصف ثمانينيات القرن الماضى تعاونًا مشتركًا فى إقامة أكبر مركز للتدريب المهنى فى الشرق الأوسط، ولنا أن نتخيل لو أننا فعلنا ذلك منذ ثلاثين عامًا وكيف كان يمكن أن تمتص تلك المراكز حملة المؤهلات المختلفة وتعطيهم خبرات مدروسة وقد تعيد تأهيلهم لاحتياجات السوق المصرى والعربى بدلًا من التمسك بمؤهلات جامدة لا علاقة لها بالطلب المتاح.
إن ما أسعى اليه من هذا المقال هو أن أعبر عن حزننا العميق لمن نفقدهم على الطرق البرية إذ لا يخلو أسبوع واحد من حادث مؤلم كان يمكن تلافيه لو أن (عامل التحويلة) لشريط السكك الحديدية كان مؤهلًا ذهنيا وأخلاقيا لمهمته، ولكنا أهملنا ذلك متجاهلين أن معظم النار من مستصغر الشرر، كما أن التدقيق فى حملة رخص القيادة وتشديد العقوبة على من يتعاطى المخدرات من سائقى السيارات هو أمر أصبح واجبًا فى ظل المهزلة الحزينة التى نسمع بها بين حين وآخر ويجب معاقبة الخارجين على قواعد المرور ونظمه أشد العقاب، ورحم الله اللواء أحمد رشدى الذى كان وزيرًا للداخلية المصرية فى منتصف ثمانينيات القرن الماضى والذى تمكن من فرض الانضباط على الشارع واستعادة السلوك المتحضر بين من يقودون المركبات ومن يسيرون على أقدامهم، أما الهجرة غير الشرعية فتلك قضية كبيرة لها جذورها الاقتصادية والاجتماعية والنفسية فضلًا عن أن نموذجًا واحدًا يفلت من خلال الهجرة غير الشرعية ويصل إلى اليونان أو إيطاليا أو غيرها من سواحل جنوب أوروبا وينجح فى عمله يمكن أن يعطى الأمل للآلاف من أقرانه العاطلين فى مصر الذين يتصورون أنهم يمكن أن يخوضوا التجربة ويحققوا مثلما حقق زميلهم الذى سبقهم وكان ذا حظ أفلت به من الموت ومن الإجراءات العقابية أيضًا!
د. مصطفي الفقي;
جريدة الأهرام العدد 47419
تاريخ النشر: 4 أكتوبر 2016
رابط المقالة: http://www.ahram.org.eg/NewsQ/554218.aspx